اللبنانيّة- الإماراتيّة نازك الأتب تمزج طاقة الحاسوب بالنانوتكنولوجيا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
أحمد مغربي
الأرجح أنّ توزّع حياة الفرد على بلدان متنوّعة هو أمر بات مألوفاً في مسارات الإنسان اللبناني، ربما منذ أقلعت سفنٌ من ميناء «جبيل» حاملة الألفبائيّة الفينيقيّة إلى العالم. لم تكن «الهجرة الشاميّة» الكبيرة في أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، سوى موجة أخرى في سيل لم يكف عن التدفق، بل لا يزال، من دون أن يقطع خيوطاً دافئة ومتنوّعة مع الوطن. ومن دون الرغبة في السير بعيداً في أشياء باتت معروفة وشائعة، إلا أن تلك الكلمات ربما تكون ضروريّة في مقاربة السيرة الذاتيّة المباشرة للعالِمَة اللبنانيّة نازك الأتب، التي كُرّمت بجائزة من مبادرة «لوريـال- يونيسكو» للمرأة في العلوم في 2016. وقُدّمَت لها منحة زمالة مخصّصة للنساء في الشرق الأوسط بـ20 ألف يورو، بوصفها عالِمَة عربيّة استثنائيّة في مجال اختصاصها، مع الإشارة إلى حصولها على درجة الدكتوراه في الهندسة المتعدّدة التخصّص من «معهد مصدر» في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة.
وتذكيراً، تعتبر مدينة «مصدر» التي تعتمد كليّاً على الطاقة النظيفة، مبادرة رياديّة هدفها إبراز أبو ظبي بوصفها مركزاً عالميّاً لبحوث الطاقة المتجددة والنظيفة.
وُلِدَت الأتب في باريس في عائلة لبنانيّة صغيرة العدد (ثلاث بنات وصبي)، اهتمت بتنشئة الأبناء على السعي الى اكتساب العلم والمعرفة، خصوصاً أن الأب يعمل في تقنيات صيانة الآلات. وفي المملكة العربيّة السعودية، قضت الأتب طفولتها، تحت رعاية الأم التي تحمل درجة جامعية في الحقوق وتعمل مدرّسة في جدّة. ويلفت أن الأختين التوأمين الأكبر سنّاً منها، تخصّصتا في الأدب الفرنسي، فيما تابع الابن الأصغر للعائلة دراسة عليا في إدارة البناء والمشاريع في جامعة بريطانيّة. ولعل الأقرب إلى المسار الأكاديمي للعالِمَة الأتب، أنها تزوّجت من مهندس مختص في تكنولوجيا المعلوماتيّة.
ألعاب الطفولة بداية الشغف
في طفولتها السعوديّة، تتذكّر ولعها بتفكيك وإعادة تركيب الألعاب الإلكترونيّة التي كانت الموضة الأحدث في السوق العربيّة في تسعينات القرن العشرين. هل كانت يداها الصغيرتان تعرفان أنهما ترسمان مسار عقلها، بل اختصاصها الذي يتمحور حول الأجهزة الرقميّة المتطوّرة ومكوّناتها، خصوصاً ذاكرتها؟ ومن ذاكرة عينيها، تستعيد شغفها كطفلة بمراقبة الأب أثناء نهوضه بإصلاح الأدوات الكهربائيّة والإلكترونيّة في المنزل، مع حرصه على أنّ يشرح للصغيرة الشغوفة ما يفعله، في شكل مبسّط يتناسب مع طفولتها. عند تلك النقطة، تكون الأتب جمعت أيضاً هويّات أمكنة متعدّدة جغرافياً وثقافيّاً: فرنسا، ولبنان والسعوديّة.
وفي عقلها، دار تنوّع من نوع آخر. وفي تلك المرحلة، أبدت براعة في المواد الأدبيّة، لكنها كانت تحسّ بشغف من نوع آخر بالمواد العلميّة. وكعادة أطفال كثر، يؤدّي الأستاذ دوراً محورياً في الميل إلى مواد تعليميّة معيّنة. وتحت تأثير معلّمين بارعين في مدرسة «مار يوسف الظهور» (بيروت)، في المرحلتين المتوسطة والثانويّة، مالت الأتب إلى الرياضيات والفيزياء.
في لحظة الانتقال إلى الدراسة الجامعيّة، لم يكن الخيار صعباً. إذ بدا بديهيّاً أن تتجه الأتب إلى تخصّص يتواصل مع الفيزياء والرياضيات، بل والألعاب الإلكترونيّة في طفولتها. ومع تشجيع عائلي كان مُتوقّعاً، نالت شهادة البكالوريوس في هندسة الحاسوب والاتصالات. ولاحظت الأتب أن مستقبل المعلوماتيّة وأجهزتها، يرتبط إلى حدّ كبير بالتطوّر في علم ناشئ هو النانوتكنولوجيا Nanotechnology، الذي يدرس المواد وتراكيبها وطاقاتها على مستوى النانو، وهو جزء من بليون من المتر. ولم يكن الاختصاص بتقنيات النانو متاحاً في لبنان، وعلى وجه الخصوص لم يكن في الجامعات المحليّة آنذاك ما يعرف باسم «الغرف النظيفة» التي تتطلّبها التجارب في تكنولوجيا النانو. وتقنيّاً، يشير المصطلح إلى مساحات يجب أن يكون كل ما فيها تحت السيطرة التامة للآلات والأدوات، فلا تخرج ولا حتى ذرّة غبار عن تلك السيطرة العلميّة. واستطراداً، يتوجّب التحكّم في عمليات الدخول والخروج من تلك الغرف، مع التحكّم في المراحل الانتقاليّة أيضاً.
لقاء مع «الغرف النظيفة»
دفعت تلك الأمور الأتب إلى التفكير في الانتقال إلى دولة الإمارات العربيّة المتّحدِة، كي تتابع الدراسة فيها. ووافقت العائلة المعتادة على التفاعل مع الأجواء الخليجيّة، على خيار الابنة الطموحة. وبسرعة، استطاعت الأتب الالتحاق بـ «معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا» الذي تشمل مروحة تخصّصاته علم النانوتكنولوجي الذي يعتبر ركناً أساسيّاً في بحوث الطاقة أيضاً.
ومع التنقّل بين دول عربيّة تملك مساحات مشتركة كثيرة بينها، لم تجد الأتب صعوبة في الموازنة بين أدوارها المتعدّدة في الدراسة والعمل والأسرة، خصوصاً أنّ زوجها يعمل مهندساً في المعلوماتيّة في مدينة جدّة. وفي سياق ذلك المسار الناجح، تكرّرت المساندة الأسريّة لطموحها في الاستمرار في المسار الأكاديمي والبحثي للوصول إلى الدكتوراه وما بعدها، على رغم ما تتطلّبه البحوث في تلك المراحل المتقدّمة من جهد ووقت.
وفي «معهد مصدر»، وصلت الأتب إلى هدف طالما سعت إليه: «الغرف النظيفة» الملائمة لتجارب النانو. ووصفت ذلك الأمر، فقالت: «خلال دراستي هندسة الحاسوب والاتصالات، كانت مادة تكنولوجيا النانو مصدر إلهام لي لمتابعة دراستي العليا وإجراء البحوث في ذلك المجال الذي يتطوّر بسرعة فائقة. وخلال دراستي في «معهد مصدر»، شغفت بالعمل في «الغرفة النظيفة»، ففيها كنت أشعر بأنني في ملعبي الخاص. وكذلك توافر لدي إمكان استخدام أجهزة حديثة مختلفة لتصنيع مواد نانونيّة عدة، مع دراسة تأثير أحجامها وأشكالها على خصائصها الضوئية والإلكترونيّة، خصوصاً تأثير تقنيات النانو في المواد المستعملة في صنع أدوات الذاكرة الإلكترونيّة، سواء في سعتها أو مدى استهلاكها للطاقة. وفي تلك الغرف التقنية المتطوّرة، أُجريَت بحوث عن ابتكار أجهزة إلكترونيّة نانويّة.
«رولز رويس» بأقل من 40 دولاراً وبسرعة مليونيّة
تناولت الأتب أبعاداً متنوّعة في تجربتها العلميّة. «مع توسّعي في ذلك الاتّجاه، نشرت مجلات علمية موثّقة مقالات مسهبة عن بحوثي، كما دعيت إلى مؤتمرات عالميّة مختصة بإلكترونيّات النانو. وأعطتني تلك الأمور دفعاً معنويّاً مؤثّراً، بل أحسّست أنها جزء من مكافأة جهودي العلميّة الصبور».
في بحوث الدكتوراه، «توسّعت رؤيتي عن هندسة النُظُم الدقيقة التي كانت موضوعاً للماجستير، خصوصاً أنها تتمحوّر حول الهندسة المتعدّدة الاختصاص. ولا زلت أثابر على بحوث عن تطوير قدرات أجهزة الذاكرة الإلكترونيّة عبر توظيف النانو في حفظ المعلومات، وهو يتصل أيضاً بخفض كمية ما تستهلكه من الطاقة. في بحوث ما بعد الدكتوراه، أخطط لتعزيز العمل في الاتجاه نفسه، مع تطبيقه على مروحة واسعة من الأجهزة الإلكترونيّة، بما فيها تلك التي تستخدم الترانزستور، وكذلك الحال بالنسبة إلى الخلايا الشمسيّة التي تولّد الكهرباء من أشعة الشمس.
ولحد الآن، تمكّنت من ابتكار عدد من المواد النانويّة (من بينها جهاز «ترسيب الطبقة الذريّة» Atomic Layer Deposition). واستخدمت بعض تلك المواد فعليّاً في صنع أجهزة ذاكرة تعمل بطاقة تقل عن 5 فولط، فيما الأجهزة التقليدية بمعظمها تعمل بطاقة تزيد على 8 فولط»، وفق كلماتها.
المرأة العربيّة وقدراتها
دعت الأتب إلى التنبّه إلى الأهمية الفائقة للتقدم في تقنيات النانو التي أحدثت قفزات نوعيّة في أجهزة المعلوماتية والاتصالات. «لو تقدّمت صناعة السيّارات في النانو بسرعة الأجهزة الإلكترونيّة نفسها، لصار سعر سيارة «رولز رويس» أقل من 40 دولاراً، مع سرعة مليونيّة»، وفق كلمات الأتب.
وذكّرت بأنها حصلت على تمويل من جامعات ألمانية لبحوثها في الماجستير، فيما قدّم «مركز البحوث البحرية الأميركية العالمية» تمويلاً لبحوثها في الدكتوراه التي تجري بالتعاون مع جامعتي «ستانفورد» الأميركيّة و «بلكنت» في تركيا.
وخلصت الأتب إلى المطالبة بتعزيز دور المرأة العربيّة في العلوم، مشيرة إلى وجود عوائق اجتماعيّة وثقافيّة أمامها، وهي لم تحل دون تحقيق نساء عربيّات كثيرات إنجازات علميّة مرموقة، ما يعطي الأمل لأخريات في العالم العربي.