خطأ ترامب الفادح.. الصياغة والتوقيت
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عبد الرحمن الحبيب
لنعد ستة أشهر إلى الوراء عندما أرجأ الرئيس الأمريكي ترامب لنصف عام آخر نقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة كما درج أسلافه.. في تلك الأثناء نقلت صحيفة إزفيستيا الروسية أن بوتين «مستعد لنقل السفارة الروسية إلى القدس الغربية شريطة تدشين سفارة في القدس الشرقية»..
كأن هناك سباقاً بين أمريكا وروسيا على الحظوة بإسرائيل.. لكن لم تثر ضجة عربية ولا دولية على الموقف الروسي.. بالأساس الموقف الروسي ينافس الموقف الأمريكي وكثيراً ما يسبقه.. فروسيا تعترف رسمياً بأن القدس الغربية عاصمة لإسرائيل، لكنها لم تنقل لها سفارتها كما أعلن بيتر يليشف القائم بأعمال المندوب الروسي الدائم في الأمم المتحدة، خلال جلسة لمجلس الأمن حول الشرق الأوسط، في 20 أبريل الماضي، باعتراف موسكو بالقدس الغربية كعاصمة لإسرائيل، حسب موقع روسيا اليوم.
لكن لماذا التركيز على أمريكا وكأن روسيا بريئة من دعم إسرائيل؟ هناك عدة أسباب، ليس هنا مجالها، فضلاً عمَّا يبدو أن السبب الرئيسي هو أن الولايات المتحدة تدعم مواقف إسرائيل بالمطلق بطريقة حمقاء.. إنما المسألة، هنا، نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس، فيظهر لي سببان: عام وخاص.
بشكل عام، القرارات الأمريكية الخارجية تعطي الأولوية في الاعتبار للداخل الأمريكي من مؤسسات (وفي مقدمتها الكونجرس) ولوبيات الضغط والرأي العام لديها، بينما في روسيا هناك مؤسسة واحدة مهيمنة وهي مؤسسة الدولة التي يمكنها تحوير صياغة القرار وتحديد توقيته حسبما تراه مناسباً للرأي العام الدولي. باختصار تجاه العالم العربي: أمريكا تقول ما يعجبها وتفعل ما يعجبها.. روسيا تقول ما يعجبنا وتفعل ما يعجبها.. وغالبيتنا نهتم بالقول أكثر من الفعل.. وهذا يفسر جزئياً الغضب العربي المستمر في قضية فلسطين على أمريكا على خلاف روسيا.
وبشكل خاص فإن خطاب ترامب بنقل السفارة تضمن كارثة في التوقيت والصياغة من ناحية مخالفته للقرارات الدولية في هذا الموضوع، رغم أن هناك تسريبات بوعود غير واضحة بما يُسمى «صفقة القرن»، حيث من المتوقع أن يأتي نائب الرئيس الأمريكي للشرق الأوسط ليطرح حلولاً جذرية قد لا ترضي الإسرائيليين بعدما أرضاهم بنقل السفارة.. لكن هذه وعود كمن يبيع سمك في البحر..
من ناحية التوقيت فإن الرؤساء الأمريكان منذ عام 1995 وعدوا بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، لكنهم أجلوها رغم ضغوط الكونجرس الذي ظل يلح طوال هذه السنين، وإذا كان ترامب تعرض لمزيد من هذه الضغوط فإنه حسب كثير من الخبراء الأمريكان كان ينبغي عليه في خطابه «التوضيح بأن إعلانه لا يتعلق بتحديد الوضع النهائي للقدس أو حدودها، وأن هذه القرارات يجب أن تتم عن طريق المفاوضات المباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين والعرب» حسب نص نصيحة معهد واشنطن لترامب قبل أيام من إلقاء خطابه (ديفيد ماكوفسكي ودينيس روس).
صحيح أن ترامب قال: «ستؤيد الولايات المتحدة حل الدولتين (إسرائيلية وفلسطينية)، إذا ما وافق الجانبان على ذلك.» لكنه لم يضع القدس في السياق، بينما دلالات ما بين سطور خطابه توحي بأنه يتكلم بحماقة عن قدس واحدة وليس شرقية وغربية مما يعني تبني الموقف الإسرائيلي المخالف للقرارات الدولية بهذا الخصوص.. رغم أن وزير خارجيته تيلرسون صرح بعدها بيومين بأن الوضع النهائي للقدس تحدده المفاوضات بين الطرفين (الفلسطيني والإسرائيلي).. وإذا كانت هذه بادرة مشجعة فإننا اعتدنا أن تيلرسون يقول كلاماً مخالفاً لرأي ترامب.. بل إنه لم يحضر خطاب ترامب لنقل السفارة الأمريكية ويُقال إنه معترض على نقلها، ويشاع أنه قد يقدِّم استقالته مع نهاية هذا العام نتيجة خلافات متكررة مع رئيسه..
كما أن سفيرة أمريكا بالأمم المتحدة ذكرت أن أمريكا لم تتخذ موقفاً بشأن حدود القدس، ولم تدعم أي تغييرات على الترتيبات المتعلِّقة بالأماكن المقدسة.. قالت ذلك بعد أن أعرب مجلس الأمن عن قلقه الشديد إزاء مخاطر قرار ترامب. فلماذا اتخذ ترامب هذا الموقف التصعيدي؟ يتعلق ذلك بوعوده الانتخابية وبما ذكرته عن أن القرارات الأمريكية تأخذ في اعتبارها الحسابات الداخلية بالدرجة الأولى..
لكن إذا لم يكن باستطاعة ترامب أن يقول مثل ذكاء الخطاب الروسي بأن القدس الغربية عاصمة لإسرائيل والشرقية عاصمة للفلسطينيين، فكان باستطاعته أن يوضح في خطابه أن الوضع النهائي للقدس معلّق حسبما تصل إليه المفاوضات بينهما.. ولكن هذا ما لم يقله رغم أنه لم يكن صعباً عليه مهما كانت الضغوط الداخلية، وهذا هو الخطأ الفادح للخطاب من وجهة نظر القانون الدولي، وليس من وجهة نظر دول الشرق الأوسط التي ترى أن فلسطين أصلاً محتلة..
إذا كانت أمريكا بالأساس وسيطاً منحازاً لإسرائيل، والمجتمع الدولي يقبل وساطتها باعتبارها القوة الأعظم في العالم، فإنها هذه المرة توصل عبر هذا الخطاب الأحمق بأنها تتخذ موقف إسرائيل بالكامل، فلا يمكن مهما بلغت القوة الأمريكية ونفوذها العالمي أن تكون وسيطاً، لذا فإن الرئيس الفلسطيني محمود عباس رفض مقدماً استقبال نائب الرئيس الأمريكي لمناقشة ما قيل عنه «صفقة القرن».. فقد تحولت الصفقة إلى صفعة!