زمن الفيديرالية في سورية والعراق... وإسرائيل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أسامة الغزولي
يتساءل الكاتب السوري أكرم البني («الحياة»/ 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017) عن المآلات المحتملة للأوضاع في سورية، واضعاً لتساؤلاته إطاراً يتألف من عناصر برز بينها احتمال أن يكون ما يحصل في هذا البلد محصلة «مؤامرة شارك فيها الجميع». والحديث عن «الجميع» إشارة إلى حقيقة تلقي ضوءاً كاشفاً على طبيعة هدفين لطالما سعت لتحقيقهما ولتعزيزهما سورية والعراق ولبنان وليبيا، ودول عربية معاصرة أخرى، واختصها البني باهتمامه في مقاله المذكور: اللحمة الداخلية، والاستقلال. ومؤدى هذه الحقيقة أن الوحدة الداخلية والاستقلال، في الأقطار المذكورة وفي غيرها تجل عن الحصر، لم يتجسدا ولم يستقرا، لزمن طال أو قصر، إلا بضمانة قوى إقليمية ودولية عديدة، قررت أي الإثنيات يمكن أن يجمعها كيان واحد وأي الكيانات يمكن أن يستقل بمن فيه على تباين إثنياتهم.
ولو أن الكاتب محمد سيد رصاص طبّق المنهج الذي اتبعـه في مقاله «نزعة الاستعانة بالخارج في السياسة العربيّة الحديثة» («الحياة»/ 18 شباط/ فبراير 2015)، أو طبّقه غيرُه، على تركيا و/أو إيران و/أو إسرائيل - فلسطين، لوجدنا تاريخاً للتدخلات الخارجية لا يقل إثارة للدهشة، بل قد يزيد. لكن الدهشة قد تزول إن استعدنا تاريخ التدخلات الخارجية في دول «عظمى»، مثل فرنسا وألمانيا. ولذا، فقد «أدهشني» أن يحشر محمد سيد رصاص في زمرة من استعانوا بقوى خارجية بطل الوطنية الفرنسية في الحرب الكونية الأولى الماريشال بيتان (الذي يبدو مستريحاً على نحو غريب، في موقعه في عبـارة رصاص، بجوار الرائد سعد حداد)، متجاهلاً أن بطل الوطنية الفرنسية في الحرب الكونية الثانية الجنرال ديغول لا يختلف، من هذه الناحية، عن «حميد كرزاي وأحمد الجلبي والجنرال بيتان وحتى سعد حداد»، لأنه لم يحرر فرنسا من سلطة النازي إلا بمعونة الحلفاء.
وباستثناء عدد قليل من الدول، فقد تكون كل دولة وطنية على ظهر كوكبنا تجسيدا لتوافق (مؤامرة؟) المجتمع الدولي (الجميع؟) سواء ابتدع هذا التوافق كياناً سياسياً أو أقر بشرعية ظهوره. لكن هذا التوافق قد يتأسس على أوضاع تُضْعِف فاعليَّتَها أوضاعٌ لاحقة، فيهتز كيان الدولة الوطنية، أو يتصدع، أو يتداعى. وهنا يحدث ما شهدناه في العالم السوفياتي وفي البلقان، في فترة سابقة، وما يحدث اليوم في بعض دول منطقتنا، خصوصاً العراق، وسورية، ولبنان، وليبيا.
وهذا- بالطبع- لا يستبعد دور العوامل الداخلية، في قيام وسقوط الدول الوطنية. لكن العوامل الداخلية، في أوروبا منذ انتهت حرب الثلاثين عاماً إلى السلام الويستفالي في 1648، وفي منطقتنا العربية- ومناطق أخرى- منذ انتهت الحرب الكونية الأولى إلى مؤتمر فرساي في 1919، أصبحت، على وجه الإجمال وفي تباين في درجات التأثر بالظروف الخارجية، أشد خضوعا للعامل الدولي والإقليمي منها للعامل الداخلي.
لا يعني هذا أن دول المنطقة- كما زعم من نددوا طويلاً باتفاقات سايكس بيكو، ظانين أنهم يمهدون لكيان يمتد من الماء إلى الماء، في حين كانوا يمهدون، من غير قصد، للأزمة الراهنة للدولة الوطنية العربية- هي معادلات سياسية موقتة وهزيلة، فرضتها قوى أجنبية، ومنبتة الصلة بتيارات محلية وإقليمية قوية. فقد لمس كل من خالط أهل منطقتنا، في السوريين والعراقيين واللبنانيين والليبيين، على وجه التخصيص، مشاعر ولاء وطني بالغ القوة لدولهم الوطنية، وإن كانت تلك المشاعر لم تغط أبداً على تناقضات عميقة، تفجرت في السنوات الست الأخيرة في سورية وفي ليبيا، وقبل ذلك في العراق، وقبل هؤلاء جميعاً في فلسطين التاريخية، المنقسمة بين وطنيتين متخاصمتين. وها هي التناقضات تتخذ شكل عاصفة تنذر بعظائم الأمور في لبنان. ولن يتجاوزها الكومنولث اليهودي، الذي ترسّخت مرحلته الأولى منذ صدر القرار الأممي 181 في تشرين الثاني 1947، إلا باتفاق اليهود والعرب على حل وسط تاريخي، برعاية دولية وإقليمية.
وإذا كان أكرم البني يحيره مصير سورية، فكل عربي معاصر يكابد حيرة مماثلة وهو يفكر بمصير الدولة الوطنية التي ينتمي إليها. وقد لا نكون مبالغين إن قلنا إن قدسية الدولة الوطنية عندنا، واستعصاءها على التحول إلى صيغ أفضل، يتهاويان اليوم مع تهاوي عنصر واحد من اثنين ركز عليهما إرنست كاسيرر في كتابه «خرافة الدولة» (1946) الذي ترجم إلى العربية بالعنوان «الدولة والأسطورة» (1975). العنصر الذي هوى هو عبادة البطولة، كما عبر عنها توماس كارلايل ونقلها للعربية محمد حسين هيكل وعباس العقاد وآخرون. أما العنصر الباقي فهو عنصر التفاوت والتمايز بين الأعراق، كما عبر عنه آرثر دو غوبينو، ونقله للعربية البعثيون والناصريون، أكثر من غيرهم.
خدمــــت «عبادة البطولة»، بعد تصنيع نسخ محلية مبتــــذلة منها، القوة الأوتوقراطية المتصلبة التي عاندت التحولات، وبخاصة في العراق وسورية وليبيا، سعياً للحفاظ على «خرافة الدولة». واستعانت الأوتوقراطية، في معاندتها التاريخ، بالصيغ الحديثة لموروث دو غوبينو كما جسده، بعد تطعيمه بعناصر من مفهوم الهوية الثقافية الذي تزامن صعود نسخ متباينة منه في القاهرة ودمشق وبيروت وبغداد مع صعود «الاستثنائية الأميركية» American exceptionalis في الولايات المتحدة، ونظيرتها الأكثر عمقاً «الدراسات الثقافية» في المملكة المتحدة. ولم تنتبه الأوتوقراطية الأقلوية، في سورية والعراق تحديداً، إلى أن شبح دو غوبينو، بتجلياته البعثية والناصرية، يستفز أشباحاً مناهضة مهمشة، يمكن أن تنافسه وتهدد مشروعه الطامس لأشكال التعددية كافة.
وجــــدت الأشباح المهمّشة فرصتها، للتحول إلى أطراف حية ذات حضور فاعل، في مستجدات فترة ما بعد الحرب الباردة. فالآثار الجانبية للعولمة- الصعود الاقتصادي للقوى الآسيوية، والهجـــرة، والإرهـــاب العابر للحدود، وتراجع معدلات النمو السكاني في أوروبــــا وأميركا الشمالية - أشعرت الإنسان الأبيض بمزاحمة «الأغيار» له فــي فضائه الوطني وفي ريادة انفرد بهـــا مـــنذ خمسمئة عـــام، فتـعزز الطـــابع الهوياتي، ليس فقط لدى الشعبويين بل ولدى كافـــة مكــونات المشهد السياسي، تقريـــبا، في عواصم القـــرار الدولي. وهكذا تهـــيأت الظـــروف لحدوث توافق (مؤامرة؟) في المجتمع الدولي (الجميع؟) حول ضرورة أن تُعَبِّر الهويات المختلفة عـــن ذواتـهـــا، في إطار الدولة الوطنية في العالم وفي منطقتنا. أصبح الاستقلال وارداً في اسكتلندا، كما هو في كاتالونيا أو في لومبـــارديا والبندقية. وفي ظروف كهذه تصبح الفيديرالية حلاً أنســـب لكيـــانات أقـــل قدرة على تحمل خضّات التحول الجذري.
في هــذا الاتجاه تمضي اليوم، على الأرجح، سورية والعراق. وقد تمضي في الاتجاه ذاته دول أخرى كثيرة، أهمها الكومنولث اليهودي الذي بدأ بالتشكل في 1948، بمن يسكنونه وبمن يرتبط وجودهم بوجوده، من يهود وعرب، وبرعاية دولية وإقليمية لا غنى عنها.