جريدة الجرائد

فلسطين «ورقة التوت» وانكشاف الأوهام

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

 يوسف الديني

  المتابع لما يجري من تناول الإعلام الشعبوي الذي تقوده قناة الجزيرة ويمارسه أحد رعاة الإسلام السياسي في الاستثمار الرخيص لأزمة وتداعيات قرار ترمب، يدرك مستوى العبث بقضية «عادلة» كفلسطين والقدس، ويدرك في الوقت ذاته حجم الانفصال بين السياسة في الشارع العربي وبين الأوهام التي يمكن أن يمررها مذيع يأخذ «سيلفي» بيده اليمنى مع مسؤول إسرائيلي ويرفع باليسرى يافطة حانقة ضد التطبيع.


واللافت أن أكثر الدول استغلالاً لورقة التوت السياسية «القدس» هي أكثرها انغماساً فيما تحذر منه، وترفع عقيرتها ضده، وبشكل أناني ومنفرد ساهم في تفويت الحق على الفلسطينيين في السلام والعيش في كنف دولة مستقلة، كما كان سقف المبادرة العربية التي طرحتها السعودية والتي لم تصل كل الجعجعات إلى الآن على المستوى السياسي في ملامستها، بل على العكس مضى «حلف الشعاراتيين» في رسم علاقات قوية مع إسرائيل منذ خمسينات القرن المنصرم، بل تم تسريب وثائق كانت معروفة المحتوى سلفاً بأن عاصمة الشعاراتيين وقبلة الإسلام السياسي الذي يحاول لملمة انكساراته عبر تفعيل حضوره مجدداً اعترفت ضمناً بالقدس كعاصمة لإسرائيل حتى قبل قرار ترمب بثلاث سنوات مما بات يعرف بـ«وثيقة العار».
وفي السياق ذاته لم نشاهد إعلام «الجزيرة» ينوح كما يفعل هذه الأيام حين زار شيمعون بيريس قطر أو حين قام جنود دولة الخليفة المنشود بعمل مناورات عسكرية أو علاقات تجارية تفوق حتى حجم ما يقدمه للفلسطينيين من دعم، اللهم إلا إذا كانت الشعارات يمكن تحويلها في مصرف المؤدلجين إلى ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
هذا السلوك المضطرب والمرضي على المستوى الإعلامي والشعاراتي لممارسة السياسة بات مكشوفاً لدى العقلاء في المنطقة، حتى الاعتراض وفق القنوات السياسية المتاحة رغم ضعفها تقوده مصر في المؤسسات الدولية، وتدعمه السعودية بموقفها الثابت والواضح، لكن السؤال الذي يدعو لحيرة المتابعين: لماذا تتم تلك الممارسات لتحريك الشارع العربي، وهل هي جزء من تغطية العوار وحالة الانكشاف لمن باعوا القضية حتى قبل أن يقدم ترمب على فعلته السياسية التي يستثمر فيها من سبقه إلى ذلك بخطايا التطبيع دون ثمن وبشكل منفرد ثم بخطيئة بيع الأوهام والاستثمار في القضية لصالح عودتهم للمسرح السياسي؟
لا يمكن فهم هذا النشاط المحموم للاستثمار في بيع الأوهام السياسية في ورقة التوت «القدس» إلا بقراءته في سياق خروج الإسلام السياسي من المشهد كفاعل في تحريك الجماهير ومحاولة المتحالفين معه من الأنظمة السياسية في المنطقة للعب أدواره بتحريك الجماهير بشكل مباشر بعد فقدان الوسيط وغياب شعاراته.
مسرح اللامعقول الذي تلعب فيه الدمى الإعلامية في «الجزيرة» بات حالة عربية بامتياز كجزء من التصعيد ما قبل حالة الانهيار التي يمكن قراءة علامتها في قرب انكماش التغلغل الإيراني في المنطقة، ومن المرجح أن يبدأ في اليمن ثم لبنان، والتسوية المرتقبة في سوريا برعاية دولية، وقد سبقها خروج الإسلام السياسي من المشهد، إضافة إلى انكشاف أوراق الخليفة غير المتوج وخطابه السياسي المزدوج، بعبارة أخرى خسارة كل الرهان لحلف الأزمات في مقابل دول الاستقرار والاعتدال رغم التحديات الكبيرة التي واجهتها وتواجهها.
في الصورة المكبرة ما يحدث الآن هو مشروع كبير لاستعادة آيديولوجيا الإسلام السياسي الذي لا يمكن أن ينسجم مع مفهوم الدولة بمعناها الحقيقي، دولة تتسع لكل المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، مفهوم المواطنة هو مضاد تماماً لمفهوم الانتماء الحزبي الذي يتم تمريره عبر شعارات مفخخة كتطبيق الشريعة أو الحرية المقيدة أو حماية الثوابت... إلخ، وربما كان تفكك السودان إلى دولتين وقبلها انفصال حماس عن باقي القطاع، ثم انفراد التشيع السياسي بالكعكة في العراق وكل الدعوات الانفصالية التي مرت بالمنطقة ما قبل الثورات، مؤشراً على انهيار مشروع الدولة القومية على حساب مشروع الإسلام السياسي.
مبدأ المواطنة في شكله البسيط هو المكون الرئيسي للدولة الوطنية التي كادت تنهار بفعل مشروع الإسلام السياسي في زمن الربيع العربي، وتآكل الدولة «الوطنية» كان مبكراً، فحظ المنطقة الرديء أن استقلالها لم يجلب سوى حكومات بملامح وطنية، لكنها في العمق تكرس مفهوم الحزب الواحد لكن بصيغ ليبرالية ويسارية وقومية، وأنتجت في نهاية المطاف القائد الملهم الفرد الذي يبيد شعبه لكنه يطلق حمامات الصمت تجاه الاستفزاز الإسرائيلي.
ثقافتنا العربية مصابة بأزمة دولة تمتد وتعيش تجربة نظرية الدولة بحسب المفكر العروبي، بل ظلت في إطار الفرمانات التي تحولت إلى مجرد تلفيق مدني لا معنى له، مرجعاً هذه الأزمة إلى مفكري النهضة ما بعد الاستقلال الذين أسلموا بشكل مؤدلج مفهوم الدولة الدستورية الحديثة لتتحول إلى دولة مدنية بمرجعية دينية، ثم جاء الإسلام السياسي ليلغي مشروع الدولة، ويبقي على الأسلمة ويطالب بعودة دولة الخلافة، التي بغض النظر عن طابعها التمييزي، لا تنتمي إلى مجال مفهوم الدولة بمعناه الحديث، وهكذا ظلت الدولة العربية تترنح في الدوامة نفسها بسبب تغييب الجماهير بأوهام الإعلام المضلل الذي كان حاضراً في كل فترة تاريخية لكنه لم يبلغ حضيضه كما تهوي «الجزيرة» القطرية التي يبدو أنها تستشف نهايتها القريبة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف