دونالد ترامب... جاذبية القومية وأوهامها
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عصام الخفاجي
العمود الفقري الذي ينتظم رؤية دونالد ترامب لأميركا ومشاكلها ودورها في العالم يقوم على أن «أمّتنا ضحية استغلال دول أخرى تنتج بضائع بأسعار أرخص وتغرق أسواقنا مدمّرة بالتالي صناعتنا الوطنية. عمّالنا يعانون من البطالة والفقر لأن غيرنا يغتني على حسابنا. أميركا تنفق بلايين الدولارات للدفاع عن بلدان أخرى من دون أن تقبض ثمناً في المقابل».
في السابق كان من المسلّم به أميركياً أن الدعم العسكري لبلدان أو مناطق بعيدة ضروري لتأمين مصالح أميركا و «العالم الحر»، لأن تهديد مصادر الطاقة أو الأنظمة الرأسمالية هو تهديد لرأس المال الأميركي والعالمي. كانت جمهرة غفيرة من شعوب العالم، بما فيه المتقدم، تطالب بإزالة القواعد العسكرية الأميركية عن أراضيها فترد أميركا بتنظيم انقلابات عسكرية ضد النظم المؤيدة لمطالب كهذه وتنفق مئات الملايين في أوروبا المستعصية على الانقلابات العسكرية لدعم الأحزاب اليمينية.
مذهل أن يشتكي من المنافسة زعيم العالم الرأسمالي والدولة التي تفتخر بكونها النموذج الأكثر صفاءً للنهوض الاقتصادي ولتحقيق الرفاه اعتماداً على قوانين السوق والحرية الاقتصادية وحريّة انتقال رأس المال بحثاً عن تعظيم الأرباح.
مذهل أن أميركا مالكة أكبر نسبة من أسهم صندوق النقد الدولي والمتحكمة فيه فعلياً لا توافق على منح قرض لبلد إن لم ينفتح على حرية انتقال رأس المال، لكنّها تقرر معاقبة رأسمالييها إن اتّبعوا قوانين السوق وقرروا الاستثمار في المكسيك أو الهند أو غيرها. مذهل أن يصوّت الأميركان لمصلحة رئيس ينقض ما تربّوا عليه من أن الحرية السياسية والديموقراطية لا تتحقّقان إلا بتحقّق الحرية الاقتصادية المترادفة، وفق هذا الفهم، مع حرية انتقال رأس المال والعمل. مذهل أن البلد الذي يفتخر بكونه أمّة من المهاجرين يصوّت لمصلحة بناء سور مع جاره لمنع الهجرة إليه، بل يطالب الضحية بدفع تكاليف بنائه.
ما يستدعي التأمّل هو أن هذا النزوع إلى الانغلاق القومي ليس سائداً في أوساط الترامبيين فقط. ترامب كان الأشطر في التلاعب بمزاج شائع سعى كل المرشّحين الجديين للرئاسة إلى دغدغته عارفين أن طريقهم إلى البيت الأبيض لن تقرّره الدراسات بل المزايدة في رفع الرايات القومية. لم يمتلك أي من هؤلاء الجرأة لدحض الشعار/ السعار المضلل: «ثراؤهم سبب فقرنا وفقرنا سبب ثرائهم». هذا الشعار/ السعار مضلّل لأنه نجح في تبرئة النظام الرأسمالي الأميركي من مسؤوليته عن إيصال حال محدودي الدخل الأميركان إلى ما وصل إليه، ملقياً اللوم على بلدان أخرى أغوت بضعة رأسماليين صناعيين أميركان بنقل نشاطاتهم إليها.
انتقال رأس المال الصناعي والخدمي إلى مختلف بلدان العالم ذات اليد العاملة الرخيصة و/ أو التي تقدم إغراءات ضريبية هو أحد معالم العولمة التي لا يمكن تخيّل النظام الرأسمالي المعاصر من دونها. هو معلم لا يقتصر على رأس المال الأميركي بل يشمل الأوروبي والصيني وحتى رؤوس أموال مصدرها بلدان أقل تقدّماً. هذه العولمة التي بات الأميركان يرونها شرّاً لا بد من محاربته، حققت للبشرية، لا لرأس المال فقط، ما لم يحققه أي تطور آخر في التاريخ البشري. فخلال أقل من عشرين سنة انخفضت نسبة من يعيشون في حالة فقر مدقع من 35 في المئة أي أكثر من ثلث سكان الأرض عام 1993 إلى 14 في المئة عام 2011.
لكن الحصيلة كانت كارثية بالنسبة للأميركان والأوروبيين. فوفقاً لاستطلاع رأي أخير، يرى 95 في المئة من الأميركان أن الفقر يتزايد. لم يتزايد الفقر في أميركا ولا في أوروبا في واقع الحال. لكن الانطباع السائد عن ازدياد الفقر لم يأت من فراغ ولم يكن نتاجاً ضرورياً للعولمة، بل نتاج ترك المجتمعات تحت رحمة حركة السوق المنفلتة. وحين تدخّلت الدول لمجابهة الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالغرب بسبب مضاربات البنوك وشركات التأمين عام 2008، قامت بتعويض البنوك لمنع إفلاسها وحمّلت ذوي الدخول المحدودة عبء دفع تلك المكافأة. حركة الأور سارت سلحفاتية طوال العقود الأربعة الماضية فيما حققت دخول الفئات العليا قفزات لا سابق لها بحيث عادت فجوة الدخل بين الأكثر فقراً والأكثر غنى إلى ما كانت عليه أيام الكساد العالمي الكبير عام 1929.
عام 1980، كان متوسط دخل من ينتمي إلى فئة الواحد في المئة من أغنى الأميركان يعادل 27 ضعف دخل من ينتمي إلى الخمسين في المئة الأقل دخلاً. أما الآن فإن دخل هؤلاء المحظوظين يعادل 81 ضعف ما يحصل عليه ابن النصف الأدنى منهم. في منتصف السبعينات كان متوسط الدخل السنوي لمن ينتمي إلى الواحد في المئة الأغنى 340 ألف دولار ارتفع الآن إلى مليون دولار، وفي المقابل ارتفع متوسط الدخل الحقيقي للنصف الأدنى من السكان خلال ثلاثة عقود من عشرين ألف دولار إلى خمسة وعشرين ألف فقط.
ليست حال التحوّل من سيادة قطاع اقتصادي إلى آخر فريدة في تاريخ الرأسمالية، بل هي ما جعل الرأسمالية نظاماً ثورياً يعجز عن البقاء من دون رفع مستمر للإنتاجية. ارتفعت إنتاجية العمل الزراعي في أوائل القرن العشرين فانخفض عدد العاملين في الزراعة من حوالى 40 في المئة من السكان إلى خمسة في المئة فقط في أميركا وبريطانيا ممن باتوا ينتجون كميات أكبر من المحاصيل.
لكن الصناعة المتوسّعة كانت تستوعب من أزيحوا وتوفّر لهم مستويات معيشة أعلى. وهكذا كان الحال مع صعود الصناعة على حساب الحرف. اختلاف المشهد الراهن يكمن في أن قطاعات الاقتصاد الصاعدة في مجالات التكنولوجيا والمعلوماتية تتطلّب قوة عمل عالية الكفاءة. وكان ممكناً وضرورياً أن تتحمّل الدولة وأرباب العمل تكاليف عملية إعادة تأهيل من فقدوا وظائفهم بسبب تراجع القطاعات الصناعية.
لكن السياسات النيوليبرالية التي أرساها رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر في الثمانينات ليست، ولم تكن، في هذا الوارد. فثمة سوق حرة تغرف منها القطاعات الصاعدة من دون عناء. محدودو الدخل ليسوا عاطلين من العمل، فالبطالة في أدنى مستوياتها منذ عقدين. لكنهم مضطرون إلى القبول بأي وظيفة مهما كان الأجر منخفضاً ومن دون ضمانات ضد التسريح الذي لا ترافقه تعويضات ضمان اجتماعي أو صحّي. وهذا هو مصدر القلق المستشري في أوساط الأميركان ذوي الدخل المحدود.
في غياب بدائل تحفظ كرامة العمال المسرّحين، لم يعد ممكناً الاحتفاء بتكامل عالمي ينقل الإنتاج والخدمات إلى حيث تكون الكلفة أقل، ويؤمن لغالبية سكانية في معظم البلدان المنخرطة في شبكة العولمة تحسين أوضاعها المادية. فالبديل يتمثّل في الاعتراف بأن النيوليبرالية باتت تقف عائقاً أمام التطور وهي، وليست العولمة، المسؤولة عن الاستقطابات الاجتماعية الخطيرة التي يشهدها الغرب.
والمحزن أن سياسياً تقدّمياً مثل بيرني ساندرز تساوق مع المزاج السائد وساهم في إيهام ذوي الدخل المحدود بأن إغلاق السوق القومية هو ترياق أمراضهم. والخوف من الخارج هو الملازم الضروري للخوف من «الغرباء» في الداخل، أي المقيمين الأجانب الذين «يقبلون بأجور أقل ويستولون على وظائفنا». وهنا تكمن مفارقة عصرنا: الطبقة العاملة الصناعية التي كانت رمزاً للثورية باتت قوة رجعية لا ترى أن مستقبلها يمر عبر الإندماج في النشاطات الصاعدة، ولا ترى أن رأس المال هو ما يعيق اندماجها، بل تتآكلها نوستالجيا العودة إلى عالم انقضى وترتمي على مزابل اليمين المتطرف في أميركا وأوروبا التي تكرّس هذا الوهم في أذهانها.
* كاتب عراقي