أين. وأين... ثم أين!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سمير عطا الله
في كتابه «الدبلوماسية»، (1994) تكهن هنري كيسنجر بأن عالم القطبين انتهى، وسوف يقوم مكانه عالم متعدد الأقطاب «يضم على الأقل ست قوى رئيسية هي الولايات المتحدة، وأوروبا، والصين، واليابان، وروسيا، وربما الهند، إضافة إلى مجموعة من الدول المتوسطة والصغرى». بعد ربع قرن، نرى دونالد ترمب يرى في الصين عدوه الأول، وفي أوروبا خصمه الأول، ونرى الهند حقًا دولة قطبية. لكن الذي لا «نراه» ولا نتذكره، أن العالم الذي قام مع استقلال الأمم المستعمرة، أخفق في الظهور. أين هي قوى «عدم الانحياز» التي كان يُفترض أن تواجه الجبّارَين، أو على الأقل، أن تكون في غنى عنهما؟ أين كتلة التعاون الآسيوي الأفريقي، التي لو حققت لنفسها التقدم، وخرجت من الشعوذة والفساد، لكانت أعظم اقتصادات الأرض؟
لقد أثبت انهيار الاتحاد السوفياتي، ومن بعده نهوض الصين، أنه لا يمكن قيام دول كبرى من دون اقتصاد كبير. الجزء الذي تقدم من آسيا، هو الجزء الذي خرج من «غينيس» الفقر، كالصين، والهند، وكوريا الجنوبية. أما أفريقيا، فلا تزال تنتظر برامج التنمية الصينية، أو المساعدات الغربية. المحزن أنه لا تقدم مع الفقر والعوز. وعندما كانت الصين ترفع «الكتاب الأحمر» في وجه الغرب، كان ذلك مفيدًا في التظاهرات ومباريات الإلقاء، أما عندما لوحت بقبضتها الاقتصادية الذهبية، فقد دب الخوف في الجميع، وأصبح خطابًا من رئيس الصين يهز دوائر العالم. جميع الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ كانت إمبراطوريات اقتصادية أولاً: من روما إلى بريطانيا. وتراجعت إسبانيا والبرتغال إلى دولتين صغيرتين ومنزويتين عندما تراجعت قوتهما الاقتصادية التي تسلح الأساطيل وتصنع المدافع الضخمة، وتشتري رضا الشعوب بعد أن تسرق ثرواتها الطبيعية.
أين نحن في هذا العالم المتعدد الأقطاب؟ لكي ندخل إليه، يجب أولاً أن نخرج من عالم أحمد سعيد. وقد كان الرجل صادقًا ووطنيًا ومخلصًا، وذا حنجرة ساحرة. لكنه لم يعلمنا كيف نفتح مصنعًا، وكيف نقيم مختبرًا صحيًا، وكيف نضاعف بالعلم ثروات النيل، وكيف نواظب على أعمالنا بدل الخروج إلى الشوارع كل يوم. وكان أحمد يدلنا كل يوم على مساوئ أعدائنا وخصومنا، ولم يفكر مرة في أن يستطلع قدراتنا وطاقاتنا ومحاسننا. وكان كل يوم يعلمنا أن الحرية هي التحرر من الاستعمار من دون أن يضيف أن الاستعمار الأكثر فظاعة هو الفقر والجهل والعبودية الداخلية.
وكان يرفع شعارًا نبيلاً جذابًا نقيًا، هو «ارفع رأسك يا أخي». ولم ينتبه إلى أن الفقير ما إن يرفع رأسه حتى يصاب بالدوار، وما إن ينصب قامته حتى يشعر بخواء المعدة. كان يُفترض في صاحب «صوت العرب» أن يذكّرنا مرة واحدة كل 24 ساعة بساعات الإنتاج والعمل، وأن يتذكر أن جيش نابليون هُزم في مصر عندما شعر بالقلة واليأس، وأصيب باكتئاب عام..