«بارانويا» أشكال وألوان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بكر عويضة
تعريب (Paranoia) وفق قاموس العلامة الراحل منير البعلبكي (المورد) يقول إنها: «1- (أ) جنون الاضطهاد، (ب) جنون العظمة. 2- جنون الارتياب: نزعة عند الأفراد والجماعات تجعلهم شديدي الشك والارتياب في الآخرين». تُرى، هل يجوز الافتراض أن تطبيق هذا التعريب، الشامل الجامع، على أمم الأرض يجيز وضع أغلب البشر أمام خطر التعرض لشكل، لون، نوع، أو مستوى ما، من «البارانويا»؟ ربما. ليس بالوسع أن أجزم.
بيد أن الاكتفاء بملاحظة ظواهر عدة رافقت تطور مسيرة بني آدم وحواء، مذ ما بعد الخلق والتكليف بمهمة إعمار الأرض، يمكن له أن يشير بوضوح إلى شبهة أن كل مخلوق عُرضة - ما لم يتق الشر فيأخذ بأسباب المناعة - لواحد من أشكال وألوان ذلك الجنون. المقصود بالمخلوق هنا، يتجاوز الفرد ليشمل الكيانات، وهذه - كما هو معلوم - تتخذ تكوينات عدة، مثل الجماعات، الأحزاب، المؤسسات، بل أيضًا الحضارات، والدول، والإمبراطوريات. رُبّ زاعق مُغاضبٍ يصيح: مهلاً، كيف تُصاب حضارة ما بأي شكل من أشكال «البارانويا»، كما تَزعم؟ سؤال صحيح، إنما المشكل ليس في الحضارة ذاتها، وإنما في كل زاعمٍ أنه وحده مالك مفاتيح فهم إرث ثقافة قومه وزخم تراثهم، وإذ ذاك تراه يبيح لرؤاه وحدها الانتساب لحضارة ذات تراث إنساني أثّر في مسار البشرية، وكان له تأثير كوني انتشر بأرجاء المعمورة، وعندما تمكنت «بارانويا» عقدة الاضطهاد من قبل الآخرين، أو شعور العظمة والتفوق على الغير، أو أحاسيس الارتياب بكل آخر، ممن أعطى نفسه حصرية الحق في تمثيل تلك الحضارة، عانت هي ذاتها من شلل الجمود، وصارت بالتالي موضع ارتياب غيرها، تواجه من إلحاح التساؤلات أكثر مما تعطي من مُريح الإجابات.
التاريخ حافل بأمثلة حضارات عدة استنسخ بعضها بعضا فيما يفيد البشر وينمي التفاعل والتعارف فيما بينهم، ولذا سادت تلك الحضارات بمشارق الأرض ومغاربها، لكنها بادت بعدما أصاب أحد أشكال «البارانويا» أطراف من حملوا راياتها، بشكل محددٍ جنون العظمة، وإذ تُرك الحبل على الغارب لأولئك، فمضوا بلا تصدٍ يوقف غيّهم، استمرأوا اللعب بالمصائر، حتى إذا ضرب الداء كل عصب في الجسم، كان الوقت قد تأخر لإنقاذ ما تبقى من عظام. التوسع في سرد أمثلة غير ممكن هنا، ليس فقط لأن المساحة لا تسمح، بل الأصح أن فهم وذكاء القارئات والقراء كافيان. لا بأس، إذنْ، في الأخذ بمثل دارج بين كثير من الناس، خصوصًا بمصر، والقائل: «هات من الآخِر»، أعني آخر ما يشغل الاهتمام من أحداث وأخبار. سياسيا، واضح أن الاهتمام بمحاولة فهم سياسات الرئيس دونالد ترمب يستحوذ على النصيب الأكبر من اهتمام وسائل الإعلام. حصل هذا منذ خطاب يوم التنصيب، وهو أمر طبيعي، فالرجل مثير للجدل من قبل أن يصبح حاكم أقوى دولة في العالم، أما غير المعقول، فهو تكاثر الشطح في اتجاه رياح عدة تحاول شرح سياسات الرئيس الأميركي من خلال الحكم على خلفيات الشخص، وبلا استناد إلى دلائل تثبت كثيرا مما راج من مزاعم.
يتخذ البعض مما يعرف بلغة الجسد دليلاً للزعم بانتساب الرئيس ترمب لحركة سرية أو أكثر. بعض تلك الحركات موغل في القِدم قرونًا. المهم عند هذا النوع من الناس هو الإيحاء أن كل شيء مُرتبٌ مُسبقًا، ومن ثم الاستنتاج أن البرامج مُعدة أصلاً، وما السيد ترمب سوى أداة التنفيذ. لئن لم يكن مثل هذا الارتياب أحد أشكال «البارانويا»، فماذا يكون؟ ليس المشكل أن تضج مواقع عدة على الإنترنت بهكذا مزاعم، بل الأخطر أنها تجد من يأخذ بها، وبينهم من يبني عليها حسابات أو توقعات، غافلاً عن حقيقة أن العالم كله تابع القصة بوضوح من البدايات، مذ ظن أغلب السامعين نبأ اعتزام ترمب الترشح للرئاسة أن الحكاية مجرد نكتة سوف تُنسى سريعًا. لكن، مع الخيبة التي أصابت ذلك الاستهزاء، بدا ألا مفر من التفتيش عن تفسير ما، حتى لو لامس اللا معقول ووقع في فخ «البارانويا». ينسى هؤلاء، أو ربما بعضهم يتغافل عن حقيقة أن الرئيس الأميركي مكبل بقيود المؤسسات الدستورية، أنظمة التشريع، وأجهزة القضاء. ثم هناك عقول تحيط بالرئيس لكنها تبقى بعيدة عن الأضواء، أبرزها فيما يخص ترمب، السيد ستيفن بانون، الذي أفردت له «تايم» غلاف أحدث أعدادها. هل يضمن هذا كله، ألا يصاب بأحد أشكال «بارانويا» العظمة أو الارتياب رئيس أميركا ذاتها، أو أي مسؤول فيها؟ كلا، بالطبع. لكن يبقى احتمال وقف الخطر، قبل الاستفحال، أقوى حيثما توجد ديمقراطية تحاسب وتسأل.