جريدة الجرائد

بريطانيا... المحافظون ينقلبون على قاعدتهم الانتخابية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

عادل درويش  

يُعد عرض مشروع الميزانية على مجلس العموم أهم الأيام في المفكرة السياسية والصحافية البريطانية، فخطط الاقتصاد والمال في النظم الديمقراطية تحدد اتجاه سياسة الحكومة.
جاءت ميزانية العام بمفاجأة لحكومة المحافظين، كدرس في الديمقراطية خصوصاً للمهتمين في البلدان العربية، عندما ترضى الحكومة عن نفسها وتطمئن إلى شعبيتها، معتقدة أن تأييد الناخب أمر مفروغ منه.


يوم الأربعاء، قدم وزير المالية فيليب هاموند مشروع ميزانية الربيع لمجلس العموم، وجلس إلى يمينه وزير الخزانة ديفيد غوك (الخزانة وزارة تحتية داخل المالية لنوضح خطأ تسمية وزير المالية بوزير الخزانة)، وبجانبه زعيم الأغلبية البرلمانية. على يسار وزير المالية جلست رئيسة الوزراء، فوزير الدفاع، فوزيرة الداخلية، فوزير الصحة، ثم وزيرتا المعارف والتنمية الدولية، ثم وزراء التجارة والعمل، أي رمز بصري قوي بأن الحكومة كلها تقدم مشروع الميزانية، وليس فقط وزير المالية.
في اليوم التالي، هاجمته الصحافة كلها (باستثناء «الغارديان» اليسارية، وهي أقل صحف بريطانيا توزيعاً وقراءة)... الصحافة التي ظلت تؤيد الحكومة، منذ تولي تيريزا ماي رئاستها قبل ثمانية أشهر.
بل إن أكثر من ثلاثين من نواب الحكومة انتقدوا وزير المالية علناً على ما اعتبروه ضغوطاً على الفرد، وتخلياً عن فلسفة حزب المحافظين التي تعتبر الفرد أساس تنمية المجتمع واقتصاد الوطن، ويجب منحه فرصة المبادرة للاستثمار.
ربما العنوان الأخطر والأكثر تدميراً لسمعة حكومة المحافظين كان في الـ«ديلي تلغراف» المؤيدة تاريخياً للمحافظين، وتُعتَبَر العقل المخطط ومنبر الحوار للحزب. كان العنوان مباشراً: حكومة المحافظين تراجعت عن وعودها للناخب.
ما هي الحكاية؟
في «مانيفستو» حزب المحافظين عشية الانتخابات العامة في 2015، عندما كان ديفيد كاميرون رئيس الوزراء، قدم الحزب وعداً قاطعاً صريحاً بعدم زيادة الضرائب التي تؤثر على الطبقات الفقيرة، مثل ضريبة القيمة المضافة على السلع ورسم الضمان الاجتماعي.
كاميرون كرَّرَها في مناظراته التلفزيونية، وخطبه أثناء الحملة الانتخابية. الوعد الانتخابي في البلدان الديمقراطية هو بمثابة تعاقد قانوني بين طرفين. فأمام الناخبين في كل دائرة عدة مرشحين، وعادة في بريطانيا الخيار بين المحافظين أو العمال، والأحزاب الصغرى أو القومية في بعض الدوائر. السياسة الاقتصادية، وفي مقدمتها الضرائب، ثم تليها خدمات كالصحة والتعليم، هي أولوية الناخب. استطلاعات الرأي بعد الانتخابات عام 2015 بيَّنَت أن أغلبية الناخبين صوتوا للمحافظين لأسباب اقتصادية، في مقدمتها الوعد بعدم زيادة الضرائب. أغلبية المحافظين حفنة مقاعد برلمانية فقط، وليست أغلبية ساحقة، أي أن الوعد بإبقاء الضرائب منخفضة كان له دور محوري في انتخاب الحكومة الحالية، أي له قيمة قوية كتعاقد قانوني مع الناخب، وهنا نفهم مدى غضب الصحافة وهجمتها على وزير المالية، وكذلك قلق عدد من نواب الحكومة أنفسهم.
تيريزا ماي بعد توليها رئاسة الحكومة وعَدَت بأن تأخذ مسار العدالة الاجتماعية، وتعديل اللوائح الاقتصادية، لإعطاء فرص أكبر للفقراء والطبقات الأقل حظاً في المجتمع.
ما خيَّب الآمال والتوقعات أن وزير المالية أعلن فرض ضرائب وزيادة رسم الضمان الاجتماعي على ما يُعرف بالعاملين في المهن الحرة، أي الذين يعملون في الخدمات وليسوا موظفين عند شركات كبرى أو مصالح حكومية، بل مثل الحرفيين، كالنجار، والكهربائي، وعاملات النظافة والخدمات المنزلية، وسائق التاكسي، وصياد السمك وبائع الخضراوات في السوق. كلهم لا يتقاضون أجراً من منشأة عمل توظفهم بل يعملون كحرفيين مستقلين. لكنهم يتلقون دخلاً مقابل الخدمات التي يؤدونها، وهامش الربح ضيق جداً. بالنسبة للحسابات الضريبية وتحصيل رسوم الضمان الاجتماعي توجد لائحة خاصة بالمهن الحرة تختلف عن التحصيل الضريبي للموظفين. ومثلاً تحسب مصاريف كأجر للمكتب أو مصاريف الانتقال كخسارة مالية. مثلاً في حالة عامل صيانة التدفئة تُحسَب له مصاريف الانتقال إلى البيوت التي يصلح أجهزتها، وتحسب تكاليف استهلاك الوقود وصيانة سيارة النقل التي تعتبر ضرورية لأداء عمله؛ فكيف سيحمل أدوات الصيانة؟
أما سائق التاكسي فتُحسَب أجرة الوقود وتكاليف الصيانة والإصلاح، وفوائد قرض شراء السيارة نفسها، كلها تُحسَب ضمن مصاريف ضرورية تُخصَم من الدخل الكامل ويدفع ضرائب فقط على الدخل الصافي. أما الموظف في مصلحة حكومية أو منشأة، فلا تُحسَب له هذه المصاريف، وإنما يخضع للائحة ضريبية للموظفين.
الفارق طبعاً أن الموظف لا يدفع مصاريف أساسية، كالتدفئة وفواتير كهرباء المكتب، كما أنه يتمتع بإجازة سنوية، وبإجازات مَرَضية ومدخرات المعاش. بينما العامل البسيط في المهنة الحرة أو النجار مثلاً، لا يكسب لقمة العيش إذا مرض.
وزير المالية قرر فرض ضرائب على هذا القطاع من العاملين في المهن الحرة، وزيادة رسم الضمان الاجتماعي. هؤلاء العاملون أحسوا أيضاً بالإهانة عندما ادعى وزير المالية أنه يقصد المساواة العادلة بضرورة أن يدفع أصحاب الدخول المماثلة ضرائب مماثلة وفق لائحة موحدة.
طبعاً هناك أصحاب دخول كبيرة بين الحرفيين وأصحاب المهن الحرة، على الورق فقط، وليس فعلياً. لكن هؤلاء أيضاً قدموا تضحيات؛ منهم من استثمرّ ثروة أسرته أو أخذ قرضاً كبيراً من البنك بضمان مسكنه ليبدأ مشروعاً. ولنتصور مثلاً أن هذا المشروع كان صالون حلاقة أو مقهى أو مطعماً. صاحب المشروع غامر بماله، ويضحي بوقته، إذ يعمل 16 ساعة يومياً، والأهم أنه يوظف عنده بضعة أشخاص في الأمثلة الثلاثة التي ذكرناها. العاملون عنده يرعون أسراً، وبالتالي يروجون لاقتصاد مكمل، ويدفعون ضرائب تدخل الخزانة.
هذه النوع من المستثمر أو العامل الفردي الحرفي الصغير هو جوهر فلسفة المحافظين؛ فرد يعتمد على نفسه لتأسيس مشروع ناجح بدلاً من أن يصبح عالة يتلقى إعانات اجتماعية. هذا الفرد استثمر بشجاعة وجرأة تقليد يعود لعصر الثورة الصناعية عندما أصبح مئات من المستثمرين الصغار عماد الاقتصاد، وأنشأوا صناعات ضخمة وبنوا إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، لكن الحكومة تعاقبه على نجاحه اقتصادياً.
نواب الحزب الحاكم غاضبون على قيادته، لأن هؤلاء الحرفيين وأصحاب المهن الحرة، يصوتون عادة للمحافظين، ويمثلون القاعدة الانتخابية له، لكن زعامة المحافظين اعتبرت ولاءهم أمراً مفروغاً منه.
الدرس هنا أن أي حكومة أو زعامة مهما بلغت شعبيتها وإنجازاتها، من الخطأ أن تأخذ ولاء الشعب على أنه أمر مضمون لن يتغير.
قد يختلف الأمر في البلدان العربية التي لا تعتمد النظام البرلماني بنمط وستمنستر، لكن تظل الظاهرة صالحة للمقارنة، فمهما هتفت الجماهير للزعيم أو الحكومة فالولاء ليس أمراً مضموناً إذا أخطأت الحكومة في الحسابات، أو اعتبرت الشعارات ودغدغة المشاعر الوطنية بديلاً عن الخطط السياسية والاقتصادية الحقيقية التي يصدقها المواطن العادي فقط عندما تتحول إلى جنيهات في جيبه.. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف