نهاية الحلم التركي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الياس حرفوش
> توقعنا يوماً، وكم كنا مخطئين، أن يقدم رجب طيب أردوغان نموذجاً للحكم في تركيا يختلف عن معظم النماذج التي حكمت العالم العربي والاسلامي. أن يكون نموذجاً ديموقراطياً يبعد تركيا عن احتمالات الحكم العسكري، ويضعها على طريق الحداثة والاقتراب من العصر، بحيث تستطيع الإقامة على طرف القارة الأوروبية وفي قلبها في الوقت ذاته. كان يمكن أن تكون تركيا مثالاً عن إمكان التصالح بين الثقافات، ودرساً للغرب عن قدرة حزب إسلامي على دخول نادي الديموقراطيات الأوروبية، ما يشكل رداً على العنصريين في أوروبا، القائلين بعجز الإسلام عن علاقة طبيعية كهذه.
لكن الحملات التي أطلقها أردوغان ضد القادة الأوروبيين، في إطار سعيه للكسب الجماهيري، واصفاً إياهم تارة بالنازيين والفاشيين، وطوراً بأنهم وقعوا ضحايا «الإسلاموفوبيا»، كشفت نهاية هذا الحلم، وأكدت عمق الفجوة بين ما يفعله أردوغان بتركيا، وما يجرّها إليه، وبين ما يفعله زعماء أوروبا ببلدانهم والمستوى الذي يطمحون أن تصل إليه.
ذلك أن اردوغان يشبه، بمستوى الخطاب الذي هبط إليه، أولئك الشعبويين من سياسيي أوروبا، الذين يستغلون الغرائز والمشاعر القومية والعصبيات الدينية، والتعصب ضد الآخرين، والذين يخفون نزعات معادية للديموقراطية، من شاكلة مارين لوبن وفيكتور أوربان وغرت فيلدرز ونايجل فاراج. هؤلاء هم الذين تسعى القوى الليبرالية الأوروبية، التي لا تزال حية ونشيطة، إلى هزيمتهم. وهو بالضبط ما حصل بنتيجة انتخابات هولندا، على رغم التحريض الذي مارسه أردوغان، والذي كان يمكن أن يصب في خدمة فيلدرز زعيم حزب «الحرية» (الحزب الذي يستحق فعلاً صفة الفاشي، وليس رئيس الحكومة الهولندية مارك روتيه أو مستشارة ألمانيا أنغيلا مركل).
يخوض أردوغان معركة الاستفتاء لنقل تركيا إلى نظام رئاسي يسمح له بتوسيع سلطاته وبالبقاء في الحكم إلى عام 2029، على جبهتين: جبهة الداخل، من خلال الحملات على مناهضيه (الذين لم يودعهم بعد في السجون) والتي وصلت حد اتهامهم بخيانة تركيا. وجبهة أوروبا، حيث يسعى إلى استمالة أكثر من 3 ملايين تركي يعيشون في القارة ويملكون حق التصويت في الاستفتاء. ويجد أردوغان أن الطريقة الفضلى لينجح في كسب أصوات هذه الجاليات هي من طريق خلق انقسام في ولاء أبنائها، بين انتمائهم إلى الدول التي يقيمون فيها ويحملون جنسياتها، وبين ولائهم لتركيا، الذي يفهمه أردوغان ولاء شخصياً له. والخطر في حملة أردوغان هذه أنها تفتح الباب أمام النزعات الشوفينية الأوروبية ضد أبناء الجاليات التركية، التي يمكن أن تصل إلى حد المطالبة بانتزاع جنسياتهم وبإعادتهم إلى بلدانهم، بسبب اتهامهم بالولاء المزدوج، وهو ما طالب به فيلدرز خلال حملته الانتخابية في هولندا، وما تدعو مارين لوبن إلى تطبيقه ضد كل من لا يحترم «القيم الفرنسية»، على حد وصفها. بكلام آخر، إنها وصفة لتعزيز صراع الهويات الذي لا يفيد سوى الانعزاليين والغوغائيين.
لم يتوقف أردوغان عند هذا الحد في اللعب على العصبيات الدينية وإثارة الغرائز. بلغ به الأمر حد اتهام الأوروبيين بإذكاء «حرب بين الهلال والصليب»، رغم علمه الأكيد بالموقع الهامشي الذي يحتله الدين في الحياة السياسية الأوروبية، مع أن هناك سياسيين على شاكلته في أوروبا، ما زالوا مستعدين للعب الورقة الدينية لتعزيز شعبيتهم. وأيضاً رغم أن حزبه نفسه (العدالة والتنمية) هو حزب ذو هوية وأصول إسلامية. آخر مرة سمعت فيها حديثاً عن «حرب الهلال والصليب» كانت عام 1990 على لسان نجم الدين أربكان، الأب الروحي لأردوغان، والذي كان آنذاك زعيماً لحزب «الرفاه»، خلال حديث أجريته معه في أنقرة، قبل أن يصبح رئيساً للحكومة ويكشف عن الوجه الحقيقي الذي اختار أن يقود تركيا إليه.
ولأن التعصب هو عادة رفيق الجهل، تجاهل الرئيس التركي أن ألمانيا التي يتهمها بالنازية، هي الدولة الأوروبية التي يمنع دستورها أي إشارة إلى النازية ويحظر بيع أي منشورات أو مؤلفات يمكن أن تحيي تلك المرحلة السوداء من تاريخ ألمانيا. أما مدينة روتردام الهولندية التي اتهمها أردوغان بالتعصب ضد المسلمين لأنها رفضت السماح لوزيرة تركية بتنظيم حملة انتخابية فيها، فهي المدينة التي يرأس بلديتها أحمد أبو طالب، المغربي الأصل، وهي أيضاً المدينة التي دمّرها النازيون في الحرب العالمية الثانية.