تروتسكي ومفتي داعش
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
مجاهد عبدالمتعالي
ابتسارا للتاريخ وقفزا على كثير من التفاصيل، كل العقلاء أدركوا أن سقوط/فتح جدار برلين عام 1989 مؤشر حقيقي لسقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991
بهذا العنوان بين القوسين «نسبة دارسي الشريعة في التنظيمات الإرهابية» استفتحت إحدى المواقع عرضها لتقرير خلاصته نصا كما يلي: «وأفضت البيانات إلى أن ما نسبته 70% من أعضاء التنظيم وصفوا معرفتهم بالشريعة الإسلامية بــ»البسيطة«، في حين وصف 23% معرفته بالمتوسطة، و2% غير معروف، وما نسبته 5% فقط وصفوا معرفتهم بالشريعة الإسلامية بــ»المتقدمة ـــ أي طالب علم«. وعن عدد الدارسين للشريعة في التنظيم فقد سجل ما عدده»119«مجندا أنهم درسوا الشريعة إما في كلية أو مدرسة دينية، أي ما يشكل 1.2% فقط داخل التنظيم بالمقارنة مع باقي التخصصات».
لنحاول هنا أن نجعل بيانات التقرير مدخلا لمزيد من التساؤلات التي تضمر إجاباتها، ولتكن البداية من دراستي في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فلماذا كان زميلي على مقاعد الدراسة أحد كبار المفتين لداعش وحده، ولم تكن معه كل دفعة كلية الشريعة التي تلقت نفس المنهج والتعليم «الأيديولوجي»، وهل النسبة عن دارسي الشريعة تعطي مؤشرا واضحا عن حقيقة المسألة، وأختصرها بشكل مباشر وأكثر وضوحا بالمثال التالي: كم نسبة المتخصصين في الفلسفة الماركسية ومذاهبها من مجموع «فدائيي» الحركات الراديكالية اليسارية في القرن الماضي التي اعتنقت ما سمي آنذاك «النضال المسلح»؟ في نظري أن النتيجة ستكون مقاربة لما وصلت إليه هذه الدراسة عن دارسي الشريعة، ولكن قطعا لا يمكن إغفال دور الدول العربية التي اعتنقت المنهج الاشتراكي في نشوء هذه الحركات اليسارية أو على الأقل بتغذيتها في سبيل ما سمي «حركات التحرر الوطني»، مع وجود مزاج عالمي يدعمه «الاتحاد السوفياتي» آنذاك، تحت غطاء «الأممية العالمية»، علما بأن الشرخ الماركسي بدأ منذ انشقاق تروتسكي ومحاولته استيلاد ثورته الأممية التي لا تتوقف، وتحول ستالين إلى نموذج للجمود الأيديولوجي الضروري لاستقرار الدولة، والحديث هنا عن فكرة بدأت على الأرض منذ الثورة البلشفية 1917 في خضم الحرب العالمية الأولى التي انتهت عام 1918 وقبيل سقوط «الخلافة العثمانية»، أي قبل ما سمي «حركة الإخوان المسلمين» ونشأتها على يد حسن البنا عام 1928 كتعويض نفسي لسقوط الخلافة.
ابتسارا للتاريخ وقفزا على كثير من التفاصيل، كل العقلاء أدركوا أن سقوط/ فتح جدار برلين عام 1989 مؤشر حقيقي لسقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991 مع بقاء «الأممية الاشتراكية» بشكلها المهذب حتى الآن ممثلة بالأحزاب الاشتراكية في معظم دول العالم، وكما فعل كثير من العقلاء حيال حادثة 11 سبتمبر 2001 كمؤشر حقيقي لسقوط «الأممية الإسلامية»، ممثلة في أدبيات الحركة الأم «الإخوان المسلمين» ونشاطها الفاعل عبر كوادرها داخل كل المنظمات والرابطات التي لها طابع إسلامي، ومحاولة رعاتها التملص والتخلص من تبعات دعمهم «اللوجستي» الظاهر والخفي عبر عقود مضت، ومحاولة هذه الحركة البقاء كبقاء «الأممية الاشتراكية»، الممثلة الآن في قرابة 162 منظمة وحزبا سياسيا في القارات الخمس، يبقى الفارق بين «الأممية الإسلامية» و«الأممية الاشتراكية» أن الأولى لها مفهومها الديني الخاص «المتصلب والمغلق» الذي تحاول الكوادر عصرنته وعلمنته بمطرقة الضرورة وحب البقاء، بينما الثانية مفتوحة «حرية عدالة مساواة» وقد نجد لها داعمين وأنصارا داخل المسلمين أنفسهم، كما يظهر في الغرب، لتقاطعها مع مصالحهم التي تدعم هويتهم كمسلمين، ونموذجه الأمثل ربما يكون «الحزب الديمقراطي الاشتراكي في ألمانيا» الذي أوصل وزيرة مسلمة «أيدان أوزغوز» كممثلة له في الحكومة الألمانية 2013، وغيرها من «الرفيقات المسلمات» في أوروبا الكثير كنماذج وصلت إلى مناصب قيادية.
بعد هذه المقدمة التاريخية والاستعراض الموجز، نعود إلى التقرير لنرى أن زميل مقاعد الدراسة «مفتي داعش» توفي بغارة جوية في «يناير 2015»، راجع صحيفة «الحياة»، عدد «السبت 3 يناير2015»، اختار هذا الطريق بعد أن أكمل دراساته العليا في كلية الشريعة، وفي نظري أنه ليس منتجا حداثيا، كما تحاول الأدبيات الاستشراقية الغربية تفسير الإرهاب عموما، مما يستثمره بعض الإسلاميين للترافع عن واقعهم، بدعوى أن التطرف نتاج «التغريب»، بل كان زميلي هذا مخلصا حقيقيا لما تعلمه في كلية الشريعة، لكن المختلف الذي يتقاطع فيه مع كثير من المتطرفين هو في المعطيات التي تقاطعت ظروفها مع ظروف أولئك الخوارج قبل مئات السنين والذين رأوا قريشا تحتكر جميع المصالح «السياسية والاقتصادية والاجتماعية»، وليس لبقية قبائل العرب رأي أو مكان، بحجة أن في قريشا النبوة والخلافة.... إلخ، فاصطنعوا لهم فهمهم الديني الخاص، الذي يدين في مرجعيته للقرآن والسنة كما يدين بها الدين الرسمي ممثلا في رجالات قريش من المسلمين، ليكونوا ثورة وفق معطيات «الفهم الشعبي» للإسلام عند عموم القبائل، ضد ما ظنوه امتيازات قريش الخاصة ومن ورائها «الفهم الرسمي» للإسلام عند قريش خاصة.
«تروتسكي الإسلاميين» لن يتوقف عن الصراخ بأمميته الثورية «الجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا»، وهذا جزء مقتبس من شعار جماعة الإخوان المسلمين، «وستالين الإسلامي» شديد الحزم والعزم على التخلص من هذا المنافس الخطر داخل «الاتحاد السوفياتي الإسلامي ـــ إذا جاز التعبيرـــ»، ومهما نجح «ستالين الإسلامي» في ذلك، فلا بد أن نرى في ما بعد مرحلة ستالين ظهور «غورباتشوف إسلامي» يصنع «بيريسترويكا إسلامية» تفك الارتباط الوهمي بين مليار مسلم يعيشون مذاهب وجغرافيات وعرقيات ولغات واقتصادات وأنظمة حكم مختلفة، يكفي فيها أن ندرك ما أورده فهمي هويدي عن وجود 15 ألف أميركي مسلم يعملون جنودا في القوات المسلحة الأميركية، يقدمون ولاءهم لوطنهم أميركا بكل تفان وإخلاص فوق كل أرض، وتحت كل سماء، ويتجهون في صلاتهم إلى قبلتهم في مكة المكرمة، وهذا ليس بجديد، فقد قدم المسلمون دماءهم في سبيل وطنهم فرنسا وكان من آثار هذه التضحية في الحرب العالمية الأولى أن تم إنشاء مسجد باريس الكبير عام 1926 تخليدا لذكرى هؤلاء، وفي هذا درس مجاني في الوطنية يعجز الكثير من أتباع «تروتسكي الإسلامي» أن يفهموه، وفي «جولاج» سيبيريا الإسلاميين ـــــ مهما رسمنا على الجدران من ورود ــــ مقبرة الأعمار لمن لا يريد أن يفهم.