ماكس هيستينغز... سيرة إعلامي بدأ مشواره في ساحات المعركة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
رنيم حنوش
ماكس هيستينغز... سيرة إعلامي بدأ مشواره في ساحات المعركة
بعد أشهر من الملاحقة والانتظار، استطاعت مديرة أعمال الصحافي البريطاني اللامع ماكس هيستينغز ترتيب لقاء يجمعني به لمدة ساعة من جدوله اليومي الحافل. التقيته في مقهى مبنى «سوميرسيت هاوس» اللندني العريق. سبعيني، طويل القامة، يرتدي معطفاً كلاسيكياً ويحمل شنطة جلدية قديمة، تخيلت لوهلة أنها كانت ترافقه في مغامراته السابقة. قهوته من دون حليب أو سكر، منديله من قماش، ولهجته أرستقراطية.
أرخ في 6 كتب تفاصيل الحروب ودفن بين صفحاتها أسرار الاستخبارات. أن تحاور أهم المراسلين الحربيين في بريطانيا ليس أمراً سهلاً، لذلك حضرت عشرات الأسئلة مسبقاً.
سألته أولاً عن أولى تجاربه في تغطية الحروب، واعترف لي أنه كان صغيراً وطائشاً حينها. إجابته بددت انطباعي الأول. فصياغته المتقنة وكنز مصطلحاته تدل على خبرة السنوات، لكن، يقبع وراءها شاب تحدى السلطة وكسر القوانين يوماً. عندها، تخليت عن النص واسترسلنا في الحديث. صراحته صادمة وخفة ظله ساخرة، وآراؤه عميقة ومثيرة للجدل.
شكرته على وقته أخيراً، هو ليباشر عمله في كتابه الجديد عن فيتنام، وأنا لإيجاد المقدمة الملائمة لتصاحب هذا الحوار الشيق. لكن، قبل أن نفترق قال لي: اخترت إجراء الحوار معك اليوم، رغم أنني أرفض عشرات المقابلات مع الصحف البريطانية، لأنني أريد الوصول إلى القراء العرب. وفيما يلي نص الحوار:
* نشأت في منزل لأب وأم كانا أعلاماً في الصحافة، فوالدك كان مراسلاً حربياً، ووالدتك كانت رئيسة تحرير مجلة الأزياء الأميركية «هاربرز بازار»، كيف أثر ذلك على اختيارك لمهنة الصحافة؟
- في مطلع شبابي، أردت أن أكون جندياً، لكنني سرعان ما اكتشفت أنني لا أمتلك الانضباط اللازم للالتحاق بالجيش، أو القدرة البدنية لأكون جندياً جيداً، فعكفت على الكتابة، وبدأت مسيرتي الإعلامية في التلفزيون، ومن ثم انتقلت إلى الصحافة الورقية.
* كيف كانت تجربتك كمراسل حربي في مختلف أنحاء العالم؟
- أعتقد أن جميع الصحافيين الشباب لديهم حلم السفر والتجوال؛ كنت من المحظوظين لبدء مسيرتي الصحافية في وقت كان العالم يشهد أحداثاً مثيرة. تلقيت منحة لأدرس المهارات الصحافية في الولايات المتحدة عام 1967. وخلال إقامتي هناك، زرت البيت الأبيض، وقابلت رؤساء أميركيين، منهم ليندون جونسون ورونالد ريغان وريتشارد نيكسون ونائب الرئيس الأسبق هوبرت هامفري. قمت بتغطية انتخابات عام 1968 الرئاسية هناك. كما كنت شاهداً على أحداث فاجعة ومحورية في الولايات المتحدة، كاغتيال مارتن لوثر كينغ وروبرت كينيدي والاحتجاجات وغيرها. كما قمت بتغطية الحرب في فيتنام. كان عمري 24 عاماً عندما زرت البلاد للمرة الأولى، كنت صغيراً وطائشاً... لكن التجربة أسرتني.
* ماذا عن تجربتك في تغطية حرب الفوكلاند؟
- في جزر الفوكلاند، أدرت أكبر خبطة صحافية في تاريخي المهني، لأن جميع زملائي من الصحافيين الحربيين لم يريدوا الذهاب إلى هناك، ليقينهم أن الحرب لن تقع، وأنه سيتم اللجوء إلى تسوية دبلوماسية، لكن الحرب وقعت بالفعل، وكنت هناك لتوثيقها، لحسن حظي. برأيي، إن أسس هذه الحرب كانت «غبية»، ومجرد منافسة على امتلاك «عقار» بين بريطانيا والأرجنتين. لكن صحافياً كانت التجربة رائعة، إلا أن البرد كان قارساً. ولأنني كنت الصحافي الوحيد هناك، كانت جميع الصحف تنشر مقالاتي وتغطيتي اليومية. وقد كتبت كتاباً ناجحاً عن تجربتي هناك.
* ذكرت للتو أنك كنت محظوظاً، وفي سيرتك تذكر أيضاً أن زوجتك قالت إنك محظوظ مهنياً... ما دور الحظ في مسيرتك المهنية؟
- للحظ دور هام في نجاحي، وكانت بدايتي موفقة. المناخ الإعلامي كان يرتكز على العلاقات والمحاباة، وأتيحت لي فرصة الالتحاق بهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في عمر الـ17 لأن والدي كان متعاوناً معهم. وأول وظيفة لي في صحيفة ورقية أتيحت لي لأن والدتي كانت تعمل في ذلك المجال. لكن الأمر تغير. واليوم، في عمر الـ71، انظر إلى الوراء وأقول: الكثير من زملائي لقوا حتفهم أثناء عملهم كمراسلين حربيين، ولكنني ما زلت على قيد الحياة مع أنني مررت بتجارب خطرة. لكن إلى جانب الحظ، الأمر الذي يجعل الصحافي متميزاً ومتقدماً في مسيرته هو تحدي السلطة، فعلى الصحافي الماهر أن يكسر القوانين بين فينة والأخرى إلى جانب القلم الجميل وموهبة الكتابة.
* في كتابك «الذهاب إلى الحروب»، هناك فصل يهم القراء العرب عن إسرائيل، وتجربتك هناك، هل تغيرت آرائك عن الدولة الإسرائيلية منذ ذلك الحين؟
- كنت في السابق من مؤيدي إسرائيل خلال أواخر ستينات ومطلع سبعينات القرن الماضي. لكن في أواخر السبعينات، أصبحت شاهداً على عدوان إسرائيل ومعاملتها للشعب الفلسطيني، وأفعال الحكومات الإسرائيلية الظالمة، ولم أعد أحب إسرائيل. واليوم، أنا من أشد معارضي الحكومة الإسرائيلية. وسيأتي يوم تندم فيه الدولة الإسرائيلية على ممارساتها الظالمة.
* ما موقفك الحالي تجاه الوضع في منطقة الشرق الأوسط؟
- هذا الملف معقد جداً، لكنني أعتقد أننا أخفقنا في سياساتنا في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة. بدأت تلك الإخفاقات منذ حرب العراق عام 2003. أنا كنت ضد التدخل في سوريا لضبابية الخطة البريطانية، رغم أنني أعارض الأسد، لكن لا أظن أن على بريطانيا هجر الشرق الأوسط، إلا أن تدخلاتها يجب أن تكون دبلوماسية وسياسية وليست عسكرية.
خلال مسيرتي المهنية، كتبت الكثير من الكتب عن الاستخبارات. وبرأيي، إن الاستخبارات البريطانية منظومة قوية جداً، ولديها معلومات كثيرة عن الشرق الأوسط، إلا أننا نفتقر إلى معرفة بحيثيات العلاقات القبلية والاجتماعية هناك. لذلك يجب أن لا نعتمد فقط على استخباراتنا، بل يجب العمل على تطوير مهاراتنا الدبلوماسية. لست من أكبر المتفائلين بفترة رئاسة ترمب، إلا أن إخفاقات أوباما في الشرق الأوسط تضغط على الرئيس الحالي لإعادة رسم سياسات جديدة في المنطقة.
* كيف تقيم المناخ الإعلامي اليوم؟ هل تدنت الجودة مع ازدياد المطبوعات والقنوات؟
- كتب صحافي بريطاني في عام 1968، حول تغطية الأخبار آنذاك، وقال إن: هنالك كماً هائلاً من المعلومات مقابل نسبة قليلة من المعرفة. وهذه الجملة كانت صحيحة في حينها، وأكثر صحة اليوم.
أثناء عملي مع الـ«بي بي سي» خلال السبعينات، كان يتوفر للمراسلين مخصصات مالية ضخمة، ليجوبوا العالم مع طاقم متكامل. وكنت أسافر بين القارات حينها. وكل رحلة كانت تستغرق 4 - 5 أسابيع، في سبيل إنتاج وثائقيات لا تتعدى مدتها النصف ساعة. أما اليوم، لا نجد ذلك. كان لدينا الدعم المالي والفرص. فعندما كنت رئيس تحرير صحيفة «التلغراف»، كان لدينا نحو 19 مراسل في الخارج والميزانية الملائمة لتغطيتهم. أما اليوم، فتغير الأمر. هناك الكثير من الوسائل لتلقي ونشر المعلومات، ولكنها تفتقر إلى المعرفة. أرى أن هناك قلة في الكوادر المتخصصة. ففي السابق، عندما كنت أعمل في الصحافة الورقية، كان هنالك زملاء لي مختصون بتغطية شؤون الدفاع. وكانوا يعرفون جميع حيثيات الملف، وحتى أنواع الأسلحة والترسانات. أما اليوم، لا يعرف معظم المراسلين الأمنيين الفرق بين الكتيبة واللواء.
* كيف بإمكاننا تصحيح هذا إذن؟
- علينا دراسة الأمور والتمعن بها لتكوين الآراء قبل النشر والتسرع. وقد نغير آراءنا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، غيرت رأيي أكثر من مرة عن أوروبا. كنت من معارضي الانضمام للاتحاد الأوروبي في السابق، لكنني الآن من معارضي الخروج منه. برأيي الأمر التراجيدي حول «بريكست» أن من صوتوا للخروج يريدون إعادة بريطانيا إلى زمن كتابات أغاثا كريستي في خمسينات القرن الماضي. كنت موجوداً حيناً، ولم تكن الأمور رائعة، والحنين إلى الماضي والنوستالجيا أمر محزن. «بريكست» درس لنا، وآمل أن نتعلم منه في المستقبل.
* كرئيس تحرير سابق لصحيفة «التلغراف» في أواخر ثمانينات القرن الماضي وإلى منتصف التسعينات، كان ضمن كادرك أحد أبرز مناصري «بريكست»، وهو وزير الخارجية بوريس جونسون، إذ كان يشغر وظيفة محرر ثم مراسل الصحيفة لدى الاتحاد الأوروبي في بروكسل، ومن ثم رفضت طلبه بتعيينه كمراسل حربي، وقمت بترقيته إلى مساعد رئيس تحرير وكبير كتاب الرأي. كيف تصف العلاقة بينكما؟
- برأيي الشخصي، بوريس ليس مؤهلاً لأي منصب حكومي، إلا أنه صحافي ممتاز. كان بوريس من أحد الصحافيين المفضلين لدي خلال فترة رئاسة تحريري لـ«التلغراف»، وذكرته في سيرتي الذاتية. كان صحافياً موهوباً، لكن غير منضبط. وهو اليوم، كوزير خارجية البلاد، رجل موهوب جدا، لكنه يفتقر إلى حس المسؤولية.
* عند تعيينك كرئيس تحرير «التلغراف»، قمت بتحويل الخسارات المادية السنوية إلى أرباح مضاعفة، كيف استطعت فعل ذلك؟
- تسلمي رئاسة تحرير «التلغراف» كان تحدياً مخيفاً لي لأنه كان أول منصب قيادي في حياتي في سن التاسعة والثلاثين. وقد عارض كثير من الناس قرار تعييني، ومنهم روبرت مردوخ. لكنني لطالما كنت على يقين أن بإمكان المرء تولي القيادة إن قام بتحديد الأهداف، وتحمل المسؤولية عند التعرض للعقبات والمشكلات، والاستثمار بالطاقات المنتجة والكوادر الموهوبة، والاستغناء عن الموظفين غير المهنيين. وواحدة من الموظفات التي اضطررت أن أقيلها كانت كريمة رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر. وظننت حينها أن ثاتشر ستعتبر قرار الإقالة مهنياً، إلا أنه أغضبها، واحتل الصفحات الأولى لجميع الصحف الأخرى. واعتقد الجميع أنه ستتم إقالتي، وحتى أنا ظننت ذلك لوهلة. لكنني نجوت، وكسبت احترام أهل الصحافة. لكن علاقتي مع الحكومة كانت متوترة لأنني خرقت تقليد تأييد «التلغراف» الأعمى لحكومة المحافظين، وبدأنا بانتقاد بعض القرارات الصادرة عن حكومة ثاتشر، وشعرت حينها بخيبة الأمل و«الخيانة» إلى حد ما، لكن مالك الصحيفة كونراد بلاك أيد جميع قراراتي.
* كيف تقيم الصحف البريطانية اليوم؟
- أعتقد أن «التايمز» التي يملكها روبرت مردوخ صحيفة جيدة، وتجسد أفضل مثال لنموذج الصحيفة الرصينة التي تحتوي على كثير من الآراء والأبواب. لكن جدير بالذكر أن مردوخ يمتلك «فوكس نيوز» في أميركا، القناة التي اعتبرها تفتقر إلى المهنية أو المصداقية.
* ذكرت في سيرتك الذاتية أن سبب نجاح صحيفة «صنداي تايمز» كان اعتمادها على السبق الصحافي، لكنك قلت أن «التلغراف» لم تعتمد على الشيء نفسه لكسب شهرتها. إذن ما الذي يميز الأخيرة؟
- كان لـ«التلغراف» دور مختلف. كنا دوماً صحيفة توفر المعلومات لقرائها، ولهذا كان كادر مراسلينا هائل. وفي الثمانينات، كنا ننشر أكثر من 17 خبراً وقصة على صفحتنا الأولى من شتى أنحاء العالم. كانت صحيفة رصينة ذات أخبار دولية، لكن اليوم للأسف خسر القراء شهيتهم لتلقي الأخبار الجادة والدولية، وباتوا مهتمين بأخبار النجوم، وبات قراء مطبوعات جادة مثل الـ«فايننشال تايمز» و«الإيكونوميست» أقلية.
* ما نصيحتك للصحافيين الشباب اليوم الذين يطمحون للمساهمة في إنعاش الصحف الرصينة والأخبار الجادة؟
- مهنة الصحافة باتت تحدياً صعباً اليوم. فعندما أزور «بي بي سي»، وأتحدث مع موظفيها الشباب، يؤسفي تدني الرواتب التي يتقاضونها، وغياب الضمانات والعقود الدائمة. ولم يكن هذا الحال في السابق، فجميع موظفي «التلغراف» كانوا يتقاضون رواتب مناسبة. برأيي، الصحافي المميز هو الذي يعتبر القصة التي يعمل عليها أهم أولوية في حياته إلى حين نشرها، ويفعل المستحيل لجمع المعلومات والحقائق. على الصحافي أن يكون كالنمر في كل الأحيان، ويصل طموحه إلى حد الجنون. وأعرف كثيراً ممن امتهنوا الصحافة، إلا أنهم لم يلمعوا، والسبب ليس لأنهم افتقروا إلى الذكاء، بل لأنهم لم يولوا كل الاهتمام لقصصهم.
* أذن هل اضطررت يوماً لعمل المستحيل لنشر قصة عملت عليها؟
- نعم، حدث هذا خلال أوائل مهماتي كمراسل حربي لصحيفة «إيفنينغ ستاندرد» لتغطية الحرب الأهلية النيجيرية. كنت مع أحد أقدم أصدقائي مراسل صحيفة «التايمز»، واستطعنا تحصيل سبق صحافي من بيافرا. واتجهنا إلى لاغوس بحثاً عن هاتف للاتصال بلندن لنقل الخبر. وكنت على علم أنه إن اضطررت الانتظار حتى الوصول إلى لاغوس للتواصل مع صحيفتي، سيسبقني زميلي بالسبق لأن «التايمز» تنشر صباحاً و«ستاندرد» مطبوعة مسائية. فقررت إجراء مكالمة من بنين على الطريق إلى لاغوس. وطوال رحلتي أنا وزميلي من بيافرا إلى بنين، درست جميع الطرق في رأسي لمنع زميلي من الوصول إلى هاتف قبلي، حتى خطر على بالي أن أترجل من سيارة الأجرة وأتركه وحده. كنت في الثانية والعشرين من عمري، وطموحي كبير جداً، والسبق الصحافي على رأس أولوياتي.
* تذكر أيضًا في سيرتك الذاتية أن مقبرة الصحافيين هي الجلوس وراء مكاتبهم، لماذا؟
- على الصحافي أن يكون حراً طليقاً في الميدان، ليتعرف على الشخصيات المثيرة للاهتمام، ويجمع قصصاً والسبق الصحافي، لكن في يومنا هذا، أصبح الصحافي ملزم بعدة مهام، منها التحرير وكتابة قصص للنسخة الورقية والإلكترونية، إلى جانب التفاعل على وسائل التواصل أيضاً، ما يستنزف من وقته في الميدان.
- لم أقم بنقد «التلغراف» منذ أن تركتها، لأنني لا أومن بالالتفات إلى الوراء والنقد. وأواظب الآن على كتابة كتاب حول حرب فيتنام، وهذا يستغرق كل تركيزي.. .