هل يتصدع مبدأ السيادة الوطنية؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
وحيد عبد المجيد
عندما تهتز أركان النظام العالمي، في أي مرحلة من مراحله، تزداد الأسئلة حول ما سيبقى من أسسه وما سيتغير. غير أن آثار التصدع الذي يصيب النظام العالمي في الوقت الراهن لا تقتصر على بعض أهم مقوماته سواء التي أُرسيت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أو التي تطورت عقب تفكك الاتحاد السوفييتي السابق. فتداعيات التصدع الحالي في النظام العالمي تمتد إلى بعض أهم الأسس التي تقوم عليها العلاقات الدولية منذ ما يقرب من أربعة قرون، مثل مبدأ سيادة الدولة على إقليمها أو السيادة الوطنية.
فقد ظل هذا المبدأ أحد أهم الأسس التي تُنظِّم العلاقات بين دول العالم منذ أن بُذرت بذرته الأولى في معاهدة وستفاليا عام 1648. وعندما أُنشئت منظمة الأمم المتحدة، وضعه ميثاقها في أرفع مرتبة، ونص في مادته الثانية على المساواة في السيادة بين جميع الدول، وأحاط هذه السيادة بضمانات كاملة، وحظَر أي تدخل في الشؤون الداخلية للدول إلا بعد العودة إلى المنظمة الدولية في ظروف استثنائية.
ولذلك تثير تداعيات التصدع الذي يصيب النظام العالمي تساؤلات عن آثاره على هذا المبدأ الذي يرى الخبير الأميركي المعروف ريتشارد هاس، وهو مدير سابق للتخطيط في الخارجية الأميركية، ورئيس مجلس العلاقات الخارجية حالياً، ضرورة إيجاد رؤية جديدة له تقوم على قبول قيام بعض الدول باتخاذ إجراءات اضطرارية وضرورية خارج حدودها نتيجة تحولات تحدث في العلاقات الدولية، وذلك في مقالته التي تصدرت عدد يناير/ فبراير 2017 من مجلة «الشؤون الخارجية» تحت عنوان:
«The Case of Sovereign Obligation-World Order 2».
وفضلاً عما طرحه هاس من تحولات على المستوى العالمي، تشهد منطقة الشرق الأوسط تدخلات بالغة الحدة، حيث أصبحت الحرب على الإرهاب مبرراً لانتهاكات واسعة في بعض بلادها. وفيما يتعذر حصر عدد الدول المتدخلة في العراق تحت لافتة التحالف الدولي لمواجهة تنظيم «داعش»، تسهل متابعة تعاظم نفوذ إيران والمليشيات التابعة لها، في ظل ترحيب ضمني من حكومة بغداد، التي رفضت في الوقت نفسه وجوداً عسكرياً فرضته تركيا وأرادت تحويله إلى أمر واقع في منطقة صغيرة «بعشيقة».
ويمثّل هذا الموقف الانتقائي اختباراً من نوع جديد لمبدأ السيادة الذي صمد في أزمات إقليمية ودولية كثيرة سابقة كانت حكومات الدول التي انتُهك فيها هذا المبدأ مغلوبة على أمرها، ولم تكن في وضع يتيح لها تفضيل انتهاك على آخر.
غير أن العراق ليس الاختبار الوحيد. فالوضع في سوريا أيضاً يُمثّل اختباراً أقوى، في ظل تخلي نظام بشار الأسد بصورة علنية عن السيادة الوطنية لمن يدافع عن بقائه. فالواقع يفيد أن هذا النظام لا يمارس سلطة حقيقية في كثير من المناطق التي يُفترض أنه يسيطر عليها، بل يترك القرار فيها لثلاث دول أجنبية هي روسيا وإيران وأميركا، فضلاً عن عدد لا يُحصى من المليشيات المذهبية الوافدة من ست دول أخرى على الأقل. ووصل الأمر إلى حد رفع العلم الروسي على مطارات سورية بعد الهجوم الصاروخي على مطار الشعيرات في 7 أبريل الجاري، علماً بأن العلم هو الرمز الأول للسيادة.
وعلى رغم أن دمشق لم تعترض بقوة على الوجود العسكري الأميركي لمحاربة «داعش» في الشمال، فقد اعتبرت الضربة الصاروخية على مطار الشعيرات في 7 أبريل الجاري انتهاكاً لسيادتها. وهنا تبلغ الانتقائية ذروتها. فالضربات الروسية التي لا تحصى منذ أواخر 2015 تُغرّز السيادة ما دامت موجهة ضد معارضي النظام، فيما الضربة الأميركية تنتهكها لا لشيء إلا لأنها استهدفت أحد مواقعه!
ولكن هذه ليست الأزمة الكبيرة الأولى التي تواجه مبدأ السيادة، أو يُثار فيها التساؤل عن مغزى انتهاكه في حروب، أو نزاعات، أو تحولات كبرى مثل تلك التي ارتبطت بتوسع نطاق العولمة وطُرح في ظلها مبدأ «التدخل الإنساني». ومع ذلك أثبت مبدأ السيادة قدرة كبيرة على الصمود إزاء رياح عاتية بدا أنها يمكن أن تزعزعه وتؤدي إلى تصدعه. والأرجح أنه سيصمد مجدداً، وأن دعوة هاس الإدارة الأميركية الجديدة للعمل من أجل إعادة تنظيمه لن تكون أكثر تأثيراً من دعوات تعالت في التسعينات إلى ترسيخ «التدخل الإنساني».
ويعود صمود هذا المبدأ وعدم تأثره بتداعيات الأزمات التي حدثت فيها انتهاكات لسيادة دول عدة إلى سبب قوي ما زال قائماً حتى اليوم، وهو استمرار حاجة العالم إليه، وعدم وجود بديل يؤدي وظيفته الحيوية في تنظيم العلاقات بين الدول.