عولمة الإرهاب والهجرة في خدمة الانغلاق والتعصب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
إياد أبو شقرا
الديمقراطيات الحقيقية تعلمنا أن الانتخابات وسيلة لا غاية. هذا يختلف عن {ديمقراطيات} من نوع آخر، كديمقراطيات «بالروح بالدم» والنسب التسعينية، التي ألفناها في أوطاننا، إما تقليداً للخارج أو إرضاءً له ودرءاً لضغوطه وغضبه.
هذا العام كان على جدول انتخابات الراصدين والمحللين ثلاثة اختبارات انتخابية مبرمجة في كل من هولندا وفرنسا وألمانيا، بعد انتخابات الولايات المتحدة واستفتاء الخروج البريطاني من أوروبا. إلا أن ثمة حسابات دفعت رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي إلى الدعوة لانتخابات مبكرة عن موعدها 3 سنوات. وبالتالي، وكما لو أن «زلزال بريكست» ما كان كافياً، والحملة الاسكوتلندية لاستفتاء ثانٍ على مغادرة «المملكة المتحدة» لم تستجمع قوة زخم متجددة، سيجد البريطانيون أنفسهم يوم 8 يونيو (حزيران) المقبل أمام انتخابات عامة ثانية تأتي خلال أقل من سنتين وشهر من سابقتها.
بالأمس، قبل يومين من الجولة الأولى للانتخابات الفرنسية، وخلال سهرة في منزل صديق شغوف بالديمقراطية البريطانية، دار الحديث حول تعامل كل من الناخب الفرنسي والناخب البريطاني مع نظامه السياسي الديمقراطي.
تركّز الحديث على جانبين جوهريين مترابطين إلى حد بعيد؛ الأول الفارق في الثقافة والتقاليد الحزبية بين الفرنسيين والبريطانيين (الإنجليز، بصفة خاصة)، والثاني هو الفارق في المزاج الشخصي والاجتماعي بينهم.
الفرنسيون، الذين يتوجّهون صباح اليوم إلى مراكز الاقتراع لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، يعيشون ثقافة سياسية مختلفة تماماً عن «جيرانهم» عبر بحر المانش. ولقد أسهمت في صوغ هذه الثقافة عدة عوامل، منها العامل الجغرافي – البيئي؛ ذلك أن بلدهم جزء لا يتجزأ من اليابسة الأوروبية شهدت أرضه منذ فجر التاريخ غزوات وهجرات وحركات استيطان وتفاعل كان لها تأثيرها التراكمي على نمو الشخصية الفرنسية. في المقابل، فإن سكان الجزر البريطانية «سكان جزر»... وهذا واقع لا ينكرونه، بل كثيراً ما يستخدمونه مبرّراً لرغبتهم في التفرّد والاستثناء. ومع أنه لا يجوز تبسيط الهوية العرقية في جزيرة «بريطانيا العظمى» بالنظر إلى الغزوات القديمة للكثير من الشعوب منها الكلت (السلت) والرومان والأنجلو – سكسونيون والدنماركيون والنورمان وغيرهم، فإن الانعزال الجغرافي للجزيرة فرض لقرون كثيرة تجانساً في وسطها (مع نزوح الشعوب الكلتية إلى الأطراف في اسكوتلندا وويلز وكورنوول) يختلف عن حال فرنسا.
ثم هناك عامل التغيير. وهنا أشير إلى أنه على الرغم من الحروب الأهلية وتغيّر السلالات الحاكمة في فرنسا وفي بريطانيا، تعايش الفرنسيون أكثر مع خيار «الثورة» من أجل التغيير، بينما كان «التغيير التدريجي» عنوان السلطة في بريطانيا، بدءاً من مفصل «الماغنا كارتا» (الشرعة العظمى) إلى مفصلي الانقلاب على الملكية ثم عودتها (في حقبة تشارلز الأول وأوليفر كرومويل ثم تشارلز الثاني). والقصد، أنه بينما أضحت «الثورة» عنواناً لثقافة فرنسا السياسية وبات تاريخ سقوط سجن الباستيل هو «اليوم الوطني» الذي تحتفل به سنوياً، فإن موقف بريطانيا من فكرة «الثورة» معاكس تماماً؛ إذ إن منطق «مؤسسة السلطة» في بريطانيا يعتبر العصيان أو حمل السلاح لأي هدف خارج «شرعيتها» تمرّداً.... بل «إرهاباً» في لغة عصرنا الحالي. ولذا نظرت لندن ليس إلى «الجمهوريين» الآيرلنديين فقط على أنهم «متمردون» و«إرهابيون»، بل شملت هذه النظرة السلبية أيضاً جورج واشنطن والمهاتما غاندي.
أخيراً هناك العامل التنظيمي أو المؤسساتي؛ إذ بينما نرى «الهالة التاريخية» الشخصانية (نابوليون بونابرت وشارل ديغول وفرنسوا ميتران) ظاهرة بارزة في الحياة السياسية الفرنسية ظلت أكبر من الأحزاب حتى في عز التجربة الديمقراطية، فإن العكس هو الصحيح في بريطانيا. لقد كانت الأحزاب البريطانية، وما زالت، أكبر حتى من كبار زعمائها، بدليل أن الزعيمين المحافظ والعمالي الأطول حكماً خلال السنوات الـ100 الأخيرة – وهما مارغريت ثاتشر وتوني بلير – أسقطهما حزباهما، ولم يخسرا أمام حزب منافس.
إزاء هذه اللمحة، دار النقاش خلال السهرة في منزل الصديق حول «زئبقية» المزاج الانتخابي الفرنسي، بالمقارنة مع سهولة التوقّع في مسألة التوجّهات الانتخابية للناخب البريطاني.
إذ قيل في هذا السياق إن تيريزا ماي ما كانت لتدعو إلى انتخابات مبكرة لولا شعورها بأنها ستعزز عبرها غالبيتها البرلمانية، ما يطلق يدها في حكم البلاد وإنجاز الانفصال عن أوروبا. وأنها في ذلك بنت حساباتها – استناداً إلى استطلاعات الرأي – على ضعف موقف حزب العمال تحت راية زعيمه اليساري الراديكالي جيريمي كوربن، الذي أفقده تأييد الناخبين غير الملتزمين، وأيضاً تشتت أصوات المعارضة الأخرى، وتصاعد خطر القوى القومية الانفصالية، ولا سيما في اسكوتلندا.
ومع أن استطلاعات الرأي أخفقت مرتين خلال العام في توقع نتيجتي «البريكست» وانتخابات الرئاسة الأميركية، فإن حسابات الانتخابات العامة في بريطانيا التي تجرى على أساس الدائرة الفردية والانقسام الحزبي العام، تظل أسهل رصداً وتقديراً من استفتاء على قضية واحدة انقسم حيالها معسكرا اليمين واليسار.
التوقع في فرنسا يبدو أكثر صعوبة. فالقضية ليست محصورة بصعوبة إرضاء ناخبي بلد فيه 264 صنفاً من الجبنة – وفق مقولة ديغول الشهيرة – بل تتصل أيضاً بالطيف الواسع من ممثلي الاتجاهات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في ظل تراجع شعبية القوى التقليدية.
استطلاعات الرأي الأخيرة، التي قد تصدق أو لا تصدق، أعطت خلال العد التنازلي للانتخابات مرشحي «حزبي المؤسسة» (الحزب الجمهوري - الديغولي، والحزب الاشتراكي)، نسب تأييد أقل من نسب مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، وأحيانا مرشح الوسط المفتقر إلى قاعدة حزبية إيمانويل ماكرون، ومرشح اليسار جان لوك ميلونشون. ثم، جاء الإرهاب ليزيد الصورة إرباكاً، ولعل كون «إرهابي الشانزليزيه» مسلماً من أصول مهاجرة سيزيد حظوظ مرشحة اليمين المتطرف... وكذلك يحسّن فرصة المرشح اليميني فرنسوا فيّون المتناغم معها كثيراً في موضوعي المهاجرين والإسلام.
يبقى القول: إن التقاليد الديمقراطية البريطانية قادرة عموماً على لجم التطرّف. أما في فرنسا فهل يكفي وجود جولة ثانية لمنع «الإرهاب» المعولَم من جعل الخوف الدافع إلى الانغلاق والتعصّب الناخب الأكبر؟. . .