حدود السعودية الجديدة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
راجح الخوري
عندما تتجاوز نسبة الشباب في المملكة العربية السعودية سبعين في المائة، من الطبيعي والضروري أن يكون المستقبل متطوراً وزاهراً، خصوصاً مع برنامج شبابي متنور للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، يهدف إلى تطوير قدرات الشعب، على مستوى الأسر والأفراد، ليكونوا فاعلين في مجتمع مستقر وسعيد.
ليست المرة الأولى التي يسهب فيها ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في شرح برنامجه التغييري والحداثي، الذي يشكّل في جوهره رداً على طموحات الشعب السعودي وشبابه، لكنه عندما يقول، في لقائه الأخير مع صحيفة «واشنطن بوست»، إن المملكة تؤسس لحقبة جديدة يقودها شباب السعودية، وإن هدفها العميق هو تحقيق أقصى الطموحات، ومواجهة كل المخاوف، فإنه يرسم حدود المستقبل غير المحدود الذي يطمح إلى تأمينه، على قاعدة ما شرح لديفيد إغناتيوس، بقوله: «إن عنان السماء هو الحد الأقصى لطموحاتنا».
الأمير محمد بن سلمان، الذي يقود بديناميكية ومثابرة خطته التي طرحها عبر «رؤية 2030»، يشرح أبعاد برنامجه الذي يعبر عن طموحات السعوديين، خصوصاً الشريحة الشابة فيهم، على قاعدة لها عمقها الهادف عبر السعي إلى هندسة تحوّل هادئ وضروري في النمط والأداء. ولفهم الأهداف البعيدة المدى لهذه الرؤية، من الضروري التأمل ملياً فيما يعنيه عندما يقول: «نحن لن نستمر في العيش في حقبة ما بعد عام 1979... فلقد ولّى زمن تلك الحقبة».
ولي ولي العهد يقدّم توصيفاً عميقاً لآثار تلك الحقبة، ذلك أنها حقبة التداعيات السلبية التي حصلت على خلفية الثورة الإيرانية عام 1979. وما حصل بعد ذلك، جاء ردة فعل على التطرف، كما على تدخلات طهران السافرة في شؤون دول المنطقة. ويرى أن السعوديين سيستمرون في تطوير مجتمعهم، وفي المحافظة على دينهم وعاداتهم وتقاليدهم، وسيتجاوزون المرحلة الراهنة المفعمة بالتوترات، وكل ذلك على قاعدة فذة شرحها بالقول:
«أنا شاب، و70 في المائة من مواطنينا هم من الشباب، ونحن لا نريد أن نهدر حياتنا في هذه الدوامة التي كنا فيها طوال 30 عاماً بسبب الثورة الخمينية التي سببت التطرف والإرهاب، نحن نريد أن ننهي هذه الحقبة الآن (...) نحن، الشعب السعودي، نريد الاستمتاع بالأيام المقبلة، ونريد أن نركز على تطوير مجتمعنا، وتطوير أنفسنا، كأفراد وأسرٍ، بينما نحافظ في الوقت عينه على ديننا وتقاليدنا».
لكن هذا لا يعني بالتأكيد تجاوز العربدة الإيرانية في المنطقة. ففي السادس من يناير (كانون الثاني) الماضي، أعلن الأمير محمد بن سلمان، في حوار مع مجلة «فورين أفيرز»، أنه لا توجد أي نقطة للتفاوض مع تلك السلطة التي تصدّر آيديولوجيتها الإقصائية، وتنتهك سيادة الدول الأخرى، مؤكداً أن النظام الإيراني يمثل العلل الرئيسة الثلاث، أي: الآيديولوجيا المندفعة بلا حدود، وحال عدم الاستقرار نتيجة لذلك، وظاهرة الإرهاب المستشري.
وإذا كانت صحيفة «واشنطن بوست» قد اختارت لمقابلة إغناتيوس مع ولي ولي العهد عنوان «السعودية كما يحلم بها أمير شاب»، فقد سبق لمجلة «فورين أفيرز» أن سمته «مايسترو التغيير والإصلاح»، من منطلق كثير من المعايير ذات المصداقية التي رصدتها في سياق عمله الدؤوب لإنجاح رؤيته الطموحة، ولهذا كتبت في حينه: «إن لغة الجسد عند الأمير محمد بن سلمان تشير في وضوح إلى أنه يملك مقداراً كبيراً من الثقة، والأهم أنه يتبنى قضية بلاده بشكل قوي».
تبرز المعالم الموضوعية لتصميم ولي ولي العهد على نجاح برنامجه الإصلاحي والحداثي، من خلال الأرقام التي كشف عنها في لقائه مع «واشنطن بوست»، فعلى سبيل المثال ليس قليلاً أن ترتفع الإيرادات غير النفطية بنسبة 46 في المائة من عام 2014 إلى عام 2016، وأن يكون العجز في الميزانية قد انخفض، وأنه من المتوقع زيادة النمو بنسبة 12 في المائة إضافية هذه السنة.
لكن أكبر تغيير في القطاع الاقتصادي يبقى في المشروع الضخم بخصخصة نسبة 5 في المائة من شركة «أرامكو» العملاقة، وهو ما يمثّل أكبر عملية بيع أسهم في التاريخ المالي، لكن الفائدة من ريع هذا البيع الضخم ستصبح مضاعفة عندما يشرح الأمير محمد بن سلمان برنامجه لتنويع الاقتصاد، حيث يبرز قطاع التعدين في رأس الأولويات، إذ من المعروف أن المملكة تملك ثروة معدنية كبيرة، تقدّر قيمتها بأكثر من 3.1 تريليون دولار أميركي.
وإضافة إلى استغلال هذه الثروة المعدنية، تبرز بعض معالم برنامج استثماري حيوي ومهم، عندما يشرح ولي ولي العهد تصميمه على إنشاء صناعة محلية لإنتاج السلاح، ما يوفّر على السعودية ما بين 60 و80 مليار دولار تنفقها على شراء الأسلحة، وكذلك على تأسيس قطاعات محلية مهمة للترفيه السياحي، بما يخدم الأهداف الحداثية التي يريدها أن تفضي إلى نشر السعادة في المجتمع، عبر عوامل ومعطيات كثيرة، منها الخطط التي وضعتها الهيئة العامة للترفيه، الذي له أيضاً بعده الاقتصادي المفيد، ذلك أن إنشاء قطاعات محلية للترفيه السياحي مثلاً سيوفّر جزءاً من مبلغ الـ22 مليار دولار التي ينفقها السعوديون الذين يسافرون إلى الخارج في عطلاتهم.
في السياسة، يضع ولي ولي العهد نقاطاً ممتازة على حروف العلاقات السعودية مع القوى الفاعلة. وإذا كانت زيارته الأخيرة إلى واشنطن، واجتماعه مع الرئيس دونالد ترمب، قد شكّلا محطة مهمة في إعادة العلاقات بين البلدين الحليفين إلى نهجها التاريخي الدافئ، فإنه يعرب الآن عن تفاؤله العميق بأن ترمب هو الرئيس الذي سيعيد الولايات المتحدة إلى مسارها الصحيح، فمع المائة يوم الأولى من عهده، ها هو يمضي في تصحيح مسار كل الولايات المتحدة مع حلفائها التقليديين.
ولم يخفِ محمد بن سلمان لهجته الدبلوماسية الهادفة في الحديث عن علاقات السعودية مع روسيا، فقد تعمّد أن يشرح لـ«واشنطن بوست»، الصحيفة المؤثرة في أميركا، أن الهدف الرئيس هو ألا تترك الرياض موسكو تضع كل أوراقها خلف إيران في المنطقة، وأن تبيّن لها بوضوح أن المملكة العربية السعودية، بما لها من طاقات وإمكانات ونفوذ إقليمي ودولي، تشكّل رهاناً إقليمياً أفضل من الرهان على طهران المنخرطة في عداءات مع دول كثيرة.
ليست المرة الأولى التي تفيض فيها «واشنطن بوست» في الحديث عن السعودية، ورؤيتها الإصلاحية الحداثية التي يقودها الأمير محمد بن سلمان. ففي الثامن من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، نشرت مقالاً للدبلوماسي الأميركي المعروف دينيس روس، الذي زارها، بعنوان: «هذه هي السعودية الجديدة التي فاجأتني». وجاء فيه أن المملكة العربية السعودية هي الأمل الوحيد في منطقة يصعب أن تجد فيها أي شيء يدعو إلى التفاؤل، ذلك أن «رؤية 2030» وضعت الأساس لخطط طموحة للمستقبل، تقوم على تنويع الاقتصاد، وإنهاء الاعتماد على النفط، والحفاظ على رؤوس الأموال من أجل الاستثمارات المحلية، وتشجيع الشفافية والمساءلة.
وما كتبه إغناتيوس في هذه الأيام، وروس أمس، ركّز عليه أيضاً زلماي خليل زاد، في مقال كتبه في 20 سبتمبر الماضي، في مجلة «بوليتيكو»، عندما قال إن السعودية ماضية في برنامج إصلاحي طموح، فلندعمها.. .