جريدة الجرائد

«الماكرونيسم» توأم «البوتينيسم»

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

 فـــؤاد مطـــر  

أدخلت انتخابات الرئاسة الفرنسية التي انتهت مؤخراً بعد حراك سياسي بالغ الحدة وحافل بالاتهامات، وأحياناً إلى درجة التشهير، مصطلحاً جديداً إلى الفضاء السياسي الدولي يمكن تسميته «الماكرونيسم». فالذي حدث بدءاً من الاقتحام المباغت للشاب حديث العهد في عالم السياسة إيمانويل ماكرون أشبه برواية ذات فصول ثلاثة ارتفع خطها البياني بسرعة قياسية بدءاً من دخول ماكرون المجتمع السياسي من الباب الأهم. لماذا هو دون غيره من خريجي «المعهد الوطني للإدارة» الذائع صيته كما «هارفارد»، الذين لهم حظوة استثنائية في بورصة الترشيحات للمواقع القيادية في الحكومات.

وأما الموقع الأهم فهو المستشار الاقتصادي لرئيس الجمهورية فرنسوا هولاند. وبصرف النظر عما إذا كان التعيين جاء من نصيحة أسداها جاك أتالي المستشار الاقتصادي للرئيس (الراحل) فرنسوا ميتران، ولقيت النصيحة تجاوباً سريعاً من آخر الرؤساء الاشتراكيين على أساس أن إصغاء ميتران إلى مستشاره أتالي أفاده في معالجة أوضاع اقتصادية صعبة عاشتها فرنسا على مدى سنوات، أو أن الهدف أصلاً من تعيين إيمانويل ماكرون بالذات ليكون المستشار الاقتصادي للرئيس هولاند ثم إسناد المنصب الأكثر حساسية، وهو نائب المدير العام للرئاسة، هو بمثابة زرْع شتلة مضمونة النمو السريع لمجرد أن يقف الشاب الاقتصاسي (بمعنى الجمْع بين الاقتصادي والسياسي) على نقاط القوة والضعف في الحياة السياسية الفرنسية، وماذا يدور في كواليس مؤسسات الحُكْم. وهذا أمر يتيسر على أهون السبُل لمَن يكون إلى جانب الحاكم يطّلع بحكم المنصب (المستشار الاقتصادي ثم نائب المدير العام للرئاسة) على الكم الهائل من التقارير التي تُرفع إلى الرجل الأول في الدولة من سائر المؤسسات السياسية والأجهزة الأمنية. ويكفي أن يطَّلع ماكرون على الكم الهائل من الأوراق والتقارير، وبالذات ما هو سري للغاية، ثم على ردود الرئيس من خلال مذكرات أو رسائل أو حتى اجتماعات مغلقة، لكي يثقف نفسه أفضل ثقافة رجل دولة.

هنا من الجائز القول إن ماكرون استقوى في خطابه عموماً وفي المفردات التي حفل بها الخطاب الذي صيغ في مجمل رؤاه في شكل نهج استهدف رموز التجارب السياسية العريقة لبعض الذين خاضوا السباق الرئاسي، بتجربة الإشغال الوظيفي المباغت له في الدائرة الأعلى في النظام... رئاسة الجمهورية.

لكن يبقى اللغز الأهم، وهو الزهد المفاجئ للشاب في منصب وزير الاقتصاد الحقيبة الأهم بين الحقائب السيادية التي لم يشغلها من قبل شاب لم يكمل العقد الثالث من العمر، وتقديم استقالته للتفرغ إلى البند الثاني من السيناريو المستقبلي، وهو إطلاق ربيع فرنسي يحمل تسمية من تلك التي حفلت بها مرحلة ازدهار العقيدة الاشتراكية والماركسية من قبل وهي «إلى الأمام» التي تذكِّرنا بمطبوعة لإخواننا الشيوعيين اللبنانيين سرعان ما انطفأت شعلتها.

ثم يأتي البند الثالث الذي تمثَّل في أن عزوف الرئيس هولاند عن خوض غمار ولاية رئاسية ثانية تواكبَ مع إعلان ماكرون ترشيح نفسه مطمئناً سلفاً إلى مقتضيات السيناريو التي قادت إلى تعيينه مستشاراً اقتصادياً ثم نائباً لمدير عام الرئاسة مع الاحتفاظ بمنصب المستشارية، فوزيراً للاقتصاد ينتهي إلى زهد غير مألوف في هذا المنصب.

مع استكمال البنود الثلاثة بدأ دور استطلاعات الرأي يمارس دور البند الرابع. ومع هذه الاستطلاعات كشْف المستور من هفوات وسقطات بعض المنافسين. وبذلك باتت الحلبة تنحصر بفارس شاب مقدام محاط بأكثر من لغز، حول بداية الصعود البياني لهذا الشاب الذي شق الطريق وشق الصفوف وجعل من ظاهرته مصطلحاً سيبقى إلى أمد طويل حاضراً في أدبيات العمل السياسي الفرنسي، ونعني بذلك «الماكرونيسم» كما «الديغوليسم» كما «الميترانيسم»، مع فارق أن سنوات من الشقاء العسكري والإنجازات النوعية من أجل الشخصية الوطنية كانت طريق الجنرال شارل ديغول أول عسكري فرنسي إلى الرئاسة، وأن مكابدة لبضعة عقود ارتبطت بالنضال السياسي والحزبي لعميد اشتراكيي فرنسا ميتران كانت بمثابة تأشيرة دخوله إلى قصر الإليزيه. أما بالنسبة إلى إيمانويل ماكرون فكانت محطات سيناريو قطار الترؤس مهيأة والإشارة الخضراء مضاءة.

ويبقى ونحن نتأمل في الظاهرة الفرنسية التي لها صيغة أحدث مصطلحات في الفضاء السياسي الدولي، نستحضر تلك الظاهرة التي حدثت في روسيا عندما وقع اختيار الرئيس بوريس يلتسين خاطف إنجاز الربيع الروسي من الرئيس غورباتشوف، أواخر التسعينات على الشاب الأربعيني بوتين ليكون بعد التدرج كما حال إيمانويل ماكرون في مناصب تُمكنه من معرفة نقاط القوة والضعف في مؤسسات الكرملين وتوابعها. وقد وظف بوتين وما زال هذه النقاط أدق توظيف بعدما بات رئيساً إثر رحيل اضطراري للرئيس يلتسين.
 
ومع اختلاف الدواعي والظروف، فإننا ونحن نقرأ في المشهد الفرنسي ملامح «الماكرونيسم» نلاحظ أن الرئيس هولاند مارس حتى لحظة إعلان فوز ماكرون دور يلتسين في تأمين ترؤس بوتين.

وكلاهما «الماكرونيسم» و«البوتينيسم» من الأرقام الصعبة في المعادلة الدولية - الإقليمية - العربية. 

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف