جريدة الجرائد

القرية غير آمنة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

  بكر عويضة  

كأنما الناس بحاجة إلى تذكيرهم أن «قرية كونية» باتت عالمهم منذ هيمنة عصر الإنترنت، غير آمنة تمام الأمان. لِمَ لا؟ يظل تذكير الإنسان بجوانب ضعفه مفيداً لمن تنفعه الذكرى. ضمن سياق كهذا، يجوز القول إن عصبة «الهاكرز»، المقتحمين نظم الحاسوب الآلي في مائة وخمسين بلداً، أو أكثر، والمسمين أنفسهم «وسطاء الظل»، أفادوا مِن حيث لم يقصدوا. لعلهم فتحوا الأعين على خطر بقي متوارياً في ظلال اهتمامات مسؤولي الأمن الإنترنتي، ما دام أنه ظلّ يستهدف خصوصيات أناس من طبقة محددة. اختلف الأمر الآن. بدأ رنين الهلع عندما صحا المعنيون في بريطانيا، الجمعة الماضي، على هجمات أمكنها شل حواسيب معظم المستشفيات، وتعطيل سير مجمل النظام الصحي. مع توالي اكتشاف ضربات مشابهة عبر العالم، اتضح للجميع أن الخطر كونيٌ، وليس محلياً يعني أناساً دون غيرهم. الاكتشاف المتأخر تمثل في الاعتراف بأنه خطر يتعاظم منذ بضع سنين.


يبدو أن مخاطر تسلل أشقياء إلى خوادم (SERVERS) الإنترنت، لم يؤخذ على محمل الجد منذ بدأ قبل أكثر من عقد. تقييم ردود فعل عموم الناس إزاء مسلسل الاختراقات، يبيّن كيف أن المواقف جمعت بين التهليل والتشمّت. عندما ضرب متسللون عصب حسابات مصرفية، فكشفوا ثروات غير معلنة، شمت كثيرون فيما عدّوه انكشاف أسرار غيرهم. وعندما تمكن نفر تسيّرهم قناعات سياسية من اختراق ملفات سرية لحكومات دول، فأذاعوا وثائق تضمنت ما أذهل الجمهور، هلل الكثيرون بشماتة أيضاً وليس ابتهاجاً بانكشاف معلومات خافية. تفسير ذلك، في تقديري، أن أغلب الناس، عبر مختلف الثقافات، يستمتع بما يسمع من نميمة، حتى لو زعم التأفف منها، فكيف عندما تطال النميمة، أو الشائعات، نجوم مجتمع ما. إذ ذاك قد يجري تلبيس زائف القول ثوب الحق، أما إذا اتسع نطاق النشر، وقيل إن الأمر يتعلق بكشف وثائق، فالمسألة حينئذٍ موضع تصفيق عوام الناس بأغلب أنحاء الكوكب، خصوصاً إذ تسارعت كبريات الصحف لفرد الصفحات، وتتسابق الفضائيات لاستضافة من اخترق الأسرار. ضمن أجواء كهذه، تغدو «ويكيليكس» أهم مصدر «للمعلومات السرية»، ويتبوأ ويليام أسانج موقع نجم ساطع أضاء ما خفي في ظلام الملفات، ورغم لجوئه لسفارة الإكوادور بلندن تراه لم يزل قادراً على الاستمرار في النشر. ولعل من اللطائف أن مستر أسانج استفتى تبّعه بمضارب «تويتر» بشأن الترشح لانتخابات مجلس العموم البريطاني، إذ يجوز له ذلك كمواطن من إحدى دول الكومنوِلث (أستراليا)، ومع أنها بدت طرفة فقد لاقت تشجيع المعجبين بأحد رواد الاختراقات الإنترنتية.


لعل قولي هذا يشي باعتراض أن يطلع الناس على أسرار أُخْفي أمرها عنهم، قصداً، مع أنها تهمهم. كلا، لستُ أعترض على أخبار تفيد البشر، أياً كانت المصادر، وبصرف النظر عن المنبع. المهم هو إشعاع نور معرفة يعمّ الجميع. رغم ذلك، يعرف كل ذي عقل كم هو بيّنٌ الفارق بين إعلام حر، وكشف ملفات أسرار أمن الدول، وأمان شعوبها. ويعرف كل من اكتوى بنار المسؤولية في العمل الصحافي، حقيقة أن الصحافة الحرة، حتى في المجتمعات الديمقراطية، تظل مقيّدة بضوابط تحول دون عبثية النشر، وهو ما يفسر التقيد البريطاني بشرط مرور ثلاثين سنة قبل السماح بنشر وثائق الدولة، وإلا فما أسهل أن تتاح معلومات خطرة سوف يوظفها لتحقيق أهدافه كل مستهدفٍ ضرْبَ بلدٍ ما، أو قل نسف استقرار شعوب بأكملها.


إلى ذلك، تُرى كم هي المسافة الفاصلة، زمنياً، بين اختراق «هاكرز» عصبة «وسطاء الظل» خوادم مؤسسات مدنية تحتاج مئات ملايين الناس انتظام عملها، وتمكّن عصابات إرهاب تزعم أنها عالمية المنهج، من اقتحام برامج أو ملفات مفاتيح حقائب قنابل ذرية؟ أهو تساؤل شطح في التخيّل بعيداً؟ ربما، لكن إذا وقع هذا، فالأرجح أن «الهاكرز» الإرهابيين لن ينتظروا ابتزاز العالم بفدية على طريقة «وسطاء الظل»، وحتى لو فعلوا قد يكون الوقت تأخر كثيراً لإنقاذ البشرية. يبقى أن ما ليس من جموح الخيال بشيء، بل إنه واضح تمام الوضوح، هو أن قرية العالم الكونية ليست آمنة تماماً. لا ضرر، إذنْ، إذا جهز البعضُ الحقائب فراراً من جحيم دنيوي يهدد الكوكب، وأملاً في ملاذ آمن يقي أهله شرور اليوم التالي، كما يقولون، وكما يأملون.. . 

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف