جريدة الجرائد

التطرف

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

صالح زياد   

مكافحة التطرف لن تكون مجدية بالاقتصار على البحث عن المتطرفين واقتناصهم، وإنما بمجاوزة ذلك إلى تعقيم الوسط الذي يسمح بالتطرف

كان تأسيس المركز العالمي لمكافحة التطرف «اعتدال» في الرياض، الأسبوع الماضي، مناسبة لإثارة السؤال في منصات التواصل الاجتماعي عن معنى «التطرف» وعلاقته بـ«الإرهاب». وهو سؤال انشغل به في السياق نفسه ملتقى «مغردون» الخامس الذي نظمته مؤسسة «مسك الخيرية» على مدار عدد من الجلسات.
وليس بمقدورنا أن نحدد معنى الكلمات التي اتخذت دلالة اصطلاحية في سياق محدد، من دون استحضار هذا السياق. فالفهم للمصطلحات خارج السياق الذي اكتسبت منه اصطلاحيتها، يُخرجها عن حدودها الاصطلاحية، ويجتزئ مفهومها أو ينحرف به إلى غيره.
«التطرف» إحدى هذه الكلمات التي لم تعد مفهومة خارج السياق الذي غدت تسمية محدَّدة ضمنه، وعنواناً جامعا لأوصاف ومظاهر جزئية تتضافر مجتمعة في الدلالة على مقتضاه، ولا يكفي أيٌّ منها وحده في تأدية مجموع المعنى الاصطلاحي ولا في الدلالة بالضرورة على علاقة به.
ولذلك لم ترد كلمة «التطرف» في معاجم اللغة العربية القديمة، ولا في المعاني الاصطلاحية المتداولة في أدبيات التراث العربي والإسلامي، بمعناها الاصطلاحي المستخدم في اللغة العربية حديثا.
ولا يسد مسد «التطرف» في التعبير عن معناه الاصطلاحي ذاك، ولا في تعريفه، استخدام كلمات ذات دلالة لغوية واصطلاحية قديمة، مثل: «الغلو» و«المغالاة» و«المبالغة» و«التعصب» و«الإفراط» و«التشدد» تصف فعل التطرف، ومثل «الخوارج» أو «الغلاة» أو «الفئة الضالة» تسمِّي المتصفين بفعله وتصفهم.
فهذه الأوصاف والتسميات القديمة، وعلى الرغم من صحتها في الإشارة إلى ما يتصف به فعل التطرف والمتطرفين، ليست وافية بالمعنى الاصطلاحي للتطرف، لا بدلالة كل منها منفردة، ولا بمجموعها. وكل ما تؤديه هو وصف مظاهر التطرف وأفعاله، حين تُستخدَم بهذا القصد، ويجوز أن تُستخدَم من دون أن يكون لها علاقة بوصف التطرف بمراده الاصطلاحي.
فالغلو الديني -مثلا- (ويعني في اللغة: مجاوزة الحد، وفي الدين: مجاوزة الحد المشروع في الدين)، وعلى الرغم من أنه تطرف بالمعنى العام، ليس تطرفا بالمعنى الخاص أي الاصطلاحي، إلا حين يتجاوز إلى النفي للآخرين وفرض قناعاته عليهم، فإذا اقتصر على من يتصف به، كان استخدام «الغلو» في وصفه بيانا لمجاوزته الحد المشروع دينياً، ولا علاقة له في هذا الاستخدام بالتطرف بذلك المعنى الاصطلاحي المتعلق بسياق المكافحة له (طائفة الآمش المسيحية في أصوليتها وتشددها وعزلتها عن العصر مثال على ذلك).
نعم، إن الغلو الديني مظهر من مظاهر أعضاء الجماعات التكفيرية والإرهابية المنتسبة إلى الدين الإسلامي، وهم موضوع الوصف بالتطرف بأخص معانيه، ولكنهم لم يكونوا موضوع تلك الدلالة الخاصة للتطرف لغلوهم في الدين فحسب، بل لنفيهم الآخرين، أي المختلفين عنهم، حتى من أبناء الدين والمذهب الذي يتشاركون معهم -في العموم- الانتماء إليه.
هكذا يأخذ «التطرف» معناه الاصطلاحي من علاقة الفكر بالاختلاف الإنساني، فالتطرف -إذا شئنا أن نستخلص تجريدا له من عديد الأحداث والجماعات والإيديولوجيات الموصوفة به ومن عديد الأدبيات المتصلة به- صفةٌ للفكر الذي يرفض الاختلاف ويتجه إلى نفي الآخرين وإلى فرض فكر واحد عليهم، بوصفه الصواب المطلق والأفضلية التامة، سواء كان هذا الفكر دينيا أم دنيويا.
غير أن صفة الفكر المتطرف هذه، تأخذ مقياسها مما هو سائد وعام، ولذلك كان موصوفا بالفئوية، ومقترناً بجماعات وأحزاب لها صفة الشذوذ عن السائد.
وبالطبع لا يمكن القول إن التطرف بهذا المعنى، ممارسة لم يعرفها البشر إلا في العصر الحديث، ولا اتخاذ ذلك علة لظهور لغة اصطلاحية حديثة، في وصفه والدلالة عليه، لم تكن موجودة ولا المعادل الدقيق لها في التراث.
فممارسات العنف التي ينطبق على الفكر الباعث عليها وصف «التطرف» بمعناه الحديث قديمة وحديثة على حد سواء، والأمثلة عديدة في تاريخنا العربي والإسلامي كما في تاريخ أمم العالم، لظهور جماعات شاذة عن مجتمعاتها اعتنقت فكرا راديكاليا لا يقبل التعايش مع غيره، وسَعَت إلى فرضه على الجميع.
إن السياق الذي أثمر -حديثاً- دلالة اصطلاحية مُجرّمة للتطرف على أوسع نطاق، هو سياق الاختلاف بين الأسطوري والعقلاني، والعاطفي والقانوني. وهو سياق يتباعد عن الوثوقية والأحادية ويفسح للنسبية والاختلاف، ويأتي في مظهرين بارزين: أولهما فكري وأخلاقي، والآخر عملي وتنظيمي.
على المستوى الفكري والأخلاقي، لم يعد للفكر البشري، عصمة ولا يقينية مطلقة، سواء كانت تلك العصمة واليقينية ادعاءً لاحتكار الحقيقة باسم الدين أم باسم الدنيا. وفي الحالين يبدو مثل هذا الادعاء وكأن المدعي يضع نفسه في موضع الله.
فالفكر المتطرف باسم الدين، فكر بشري يتأول الدين، ومشكلته التي يغدو بها متطرفاً تكمن -من هذا المنظور- في ادعائه الحق الذي ليس بعده إلا الضلال. والفكر المتطرف باسم الدنيا هو الآخر فكر بشري، لكنه يضفي على ذاته تألّهاً بدعوى الصواب والأفضلية، كما هي الإيديولوجيات العنصرية بأشكالها المختلفة.
انعدام الشعور بالصفة الإنسانية في الفكرة المتطرفة، ينفي عنها النسبية، ويضفي عليها إطلاقية زائفة، وعندئذ لا إمكان للحديث عن وسط وطرفين أو أطراف، ولا عن اعتدال وغلو، بل عن صواب ليس بعده إلا الخطأ، وكمال ليس سواه إلا النقصان.
وهذا الفكر المجرِّم للتطرف على الرغم من انبثاث ملامح منه في كثير من الرؤى العقلانية والدينية منذ القديم (يمكن الاستشهاد في هذا الصدد بمقولات لفقهاء وفلاسفة من تراثنا) لم يستنر به العقل الإنساني على نطاق يجاوز النخب إلا في العصر الحديث، حين ترسخ الفكر النقدي بديلا عن التلقيني والاتباعي.
والصفة الفكرية العقلانية والمعرفية في هذا المستوى، وثيقة الصلة بالصفة الأخلاقية، فإذا كان الفكر المتطرف فكرا زائفاً ومزيّفا وتحكميا واستحواذيا فإن نقضه والدحض له لا يحدث إلا بما هو بالضد من الزيف والتزييف وعلى نقيض الاستبداد والقهر والتحكُّم، وتلك قيمة أخلاقية، بأدق معنى وأدلِّه على التحرر والمسؤولية.
أما على المستوى العملي والتنظيمي، فإن العالم لم يشهد قديما تبلورا مؤسسيا للحقوق بالمعنى الإنساني الذي يجردها من كل ارتهان أو قيد، ولم يعرف من المؤسسات والمعاهدات والأدبيات في هذا الصدد، ما يجعل التطرف مداناً ومجرَّما باسم الإنسانية وباسم الأديان وباسم العقل.
وليس معنى ذلك أن البشر في العصر الحديث تخلصوا من الوثوقية الدوغمائية، ومن الأساطير والخرافات، ومن ثم من العنف الذي يمارس باسم الحق. ولن يستطيعوا ذلك مطلقا ما دام العقل البشري محكوما بمحدودية قدراته، وعاجزا عن أن يكون كلي العلم، والواقع البشري لا يبرأ أبداً من الأنانية. لكن الوعي الإنساني يتسع ويستنير ويمتلك قدرة نقدية لذاته على الدوام.
وأخيراً فإن مكافحة التطرف لن تكون مجدية بالاقتصار على البحث عن المتطرفين واقتناصهم، وإنما بمجاوزة ذلك إلى تعقيم الوسط الذي يسمح بالتطرف، وهذه مهمة المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية، في ترسيخ عقل نقدي، يحل محل التلقينية، ويساعد على بروز الفردية المنتمية والمسؤولة.
ولا تقل عن ذلك مهمة المؤسسات الدينية التي ينبغي أن ترسخ الوعي بالتسامح، وتكافح أسباب التعصب والكراهية للآخر، وتقاوم التوظيف السياسي لمنابر العبادة. والمهمة أيضا لا تنتهي من دون اجتراح الأسئلة عما يضعف لدى الشباب، الانتماء والثقة في المستقبل والابتهاج بالحياة، ويسلمهم لظلامية التطرف وبؤس مصيره.
 

 

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف