مجدداً... قراءة في خطاب ظريف!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
محمد الرميحي
الاستمرار في ترحيل الأزمة، وتغطيتها بشعارات تصل إلى حد الاستهزاء بالعقول هي السمة الغالبة لدى متخذ القرار في إيران، وربما ستبقى كذلك حتى حين، دون الوقوف بجدية للنظر في استحقاقات الموقف العام في الشرق الأوسط، الذي تتفاقم حروبه بسبب المواقف الإيرانية في التدخل السافر في شؤون الجيران العرب، فبعد ظهور نتائج انتخابات رئاسة الجمهورية الإيرانية من جهة، وما خلفته قمة الرياض العالمية من تأثير قوي على موجات التفاعل الدولي، ظهر لنا مقال السيد جواد ظريف في «نيويورك تايمز» الأسبوع الماضي، كما ظهرت له ترجمات عربية وفارسية في الفضاء الإعلامي، هذا المقال يحمل نبرة عدوانية، على عكس مقال سابق نشره في أغسطس (آب) عام 2015 بعد توقيع إيران الاتفاق النووي مع الدول الخمس، كان ذلك يحمل نبرة تصالحية، الأخير على عكسه تماماً. ليس جديداً الحديث بمستويات مختلفة عند النظام الإيراني؛ فذلك يبرز التناقض في الداخل، وينعكس بالضرورة على الخارج. في المقال الأخير ذي النبرة العدوانية نلحظ مسارين، الأول هو لوم المملكة العربية السعودية على كل مظاهر الاضطراب في الشرق الأوسط، وأنها هي فقط المشكلة، ولا يخلو ذلك من كلمات وعبارات خارجة ليس عن الدبلوماسية فقط، ولكن حتى عن الذوق السليم، الذي يفترض أن يخاطب به وزير الخارجية جمهوراً من الغرب المنفتح على التفكير النقدي، وجمهوراً عالمياً يستطيع أن يستخدم عقله. والمسار الآخر تبرئته الجمهورية الإيرانية من كل الأدران، وإظهارها حمامة سلام في المنطقة. مقالة السيد ظريف الأخيرة تحول موقفه فيها من نبرة تصالحية قبل أكثر من عامين، إلى نبرة عدوانية يمكن أن يفسر أنه ردة فعل غير متوازنة لنتائج قمة الرياض، ومحاولة لتضليل الرأي العام عن نتائج تلك القمة التاريخية ومحاولة حرف أهدافها. وهناك عدد من الملاحظات الأساسية على ذلك المقال، تعين على تفسير مراد الخطاب ولماذا في هذا التوقيت، مجمل الملاحظات خمس.
الملاحظة الأولى، أن مقالة السيد جواد ظريف، لمن يقرأها، تحتمل الافتراض أن المخاطبين أغبياء، ولا يعرفون مما يجري في العالم شيئاً، فخلطه المتناقض لعدد من القضايا، سرعان ما يكتشفه القارئ، فهو يحمل على (أفكار قادمة من المملكة العربية السعودية) تسبب الإرهاب، كما يدعي، لكنه يتجاهل كلياً (أعمال إرهابية) تمولها الجمهورية الإسلامية علناً وفي وضح النهار، منها «حزب الله» في لبنان، ومنها الحوثي في اليمن، ومنها عدد من الكتائب العراقية والأفغانية (الهزارة) وتدفع الجميع في أتون حرب ضد شعب سوريا، الذي قتل منه حتى الساعة مئات الآلاف، وشرد عدداً من الملايين، فأيهما أكثر ضرراً من أجل النقاش المنطقي (الأفكار) أم (الأعمال)؟... ذلك ما تجاهله كلياً السيد ظريف.
الملاحظة الثانية، أن نتائج القمة العالمية في الرياض قد تركت أثراً قوياً في طهران، وهو أنه لم يعد للأغلبية في منطقة الشرق الأوسط أن تتسامح أو تتجاهل هذا التخريب الإيراني في أكثر من مكان، وأن هناك عزماً على مواجهة ذلك التخريب أولاً بفضحه، وثانياً بالتعامل معه بأدوات مختلفة، منها الحشد العالمي الكبير والضخم الذي قرر في الرياض أن أصل الإرهاب قادم من طهران لا من غيرها، ذلك ما جعل السيد ظريف يتوجه إلى الرأي العام الأميركي محذراً ومهدداً ومشيراً بإصبعه إلى مكان آخر، رغم كل التناقض الذي أبداه في مقالته المذكورة، فهو أشار إلى عدد من الجماعات مثل طالبان و«النصرة» و«داعش»، وهو يعرف حق المعرفة أن كل تلك الجماعات هي مدانة من القوى التي شاركت في قمة الرياض، وما قصر عنه حديث ظريف أن «حزب الله» وجماعة الحوثي، وكل الجماعات الإرهابية التي تمولها وتنظمها وتدربها طهران هي التي تعبث بالأمن الإقليمي!
الملاحظة الثالثة، مقالة ظريف هي خطاب للداخل بعد أن فاز السيد روحاني، وربما أيضاً شهادة تزكية تبرر لنظام السيد ظريف مجدداً لفريق الحكم مع السيد روحاني، فيظهر التشدد خشية قطع طريقه من قبل الغلاة فيقدم نفسه المدافع عن (مشروع الجمهورية الإسلامية) الحقيقي، وهو التوسع في الجوار، ربما لأن الجانب المتشدد وجد في وصول روحاني إلى الحكم من جديد تهديداً للمشروع أو احتمال ذلك التهديد، فأراد السيد ظريف أن ينفي عن الإدارة الجديدة تلك التهمة، وبخاصة أن السيد إبراهيم رئيسي منافس روحاني وممثل المتشددين قال بعد خسارته للانتخابات، على السيد روحاني أن يحسب حساب من لم يصوت له، وهم الخمسة عشر مليوناً الذين صوتوا لي! رسالة واضحة تجعل من إدارة روحاني تحسب خطواتها، وبخاصة أنها إدارة خيارتها محدودة وقراراتها مقيدة بأوامر ونواهي الولي الفقيه! خطاب ظريف يريد أن يقدم الإدارة الجديدة على أنها المدافعة عن المشروع، وأنها لن تفرط فيه! وأفضل طريقة لإعلان ذلك الدفاع هو مهاجمة المملكة العربية السعودية بأبشع الألفاظ والتهم وأكثرها افتراء، من المهم إلحاق عنصر آخر في هذا الاحتمال أن السيد جواد ظريف شخصياً يقدم أوراق اعتماد للاستمرار في منصبه الرفيع!
الملاحظة الرابعة، هي أن مخاطبة الغرب بهذه الفجاجة وشيطنة المملكة العربية السعودية محاولة غير حصيفة لقطع الطريق أو تعويق ما تم من اتفاقيات بين أهل القمة في الرياض، عرباً ومسلمين، وبين الإدارة الأميركية الجديدة، ومحاولة جلب بعض المتاعب للإدارة الجديدة في الداخل، ووضع العراقيل أمام الرئيس الجديد بإثارة المعسكر الآخر، وهو احتمال قائم بدليل أن بعض الأقلام التي نشرت رأيها بعد مقال ظريف سارت في المنوال نفسه، بل وبدا البعض في محالة تعويق ما اتفق عليه من خلال استخدام بعض المنابر الإعلامية أو التشريعية، ويرمي المقال من جانب آخر إلى محاولة إحياء التوافق السابق، بين شرائح في النخب الأميركية السياسية وبين (اعتدال طهران) المزعوم!
الملاحظة الخامسة، هي محاولة إحياء فكرة التصالح الإيراني المضاد (للإرهاب العربي)، فقد ذكر المقال بكارثة سبتمبر (أيلول) عام 2001 مع ربط الفكرة بمبادرة السيد روحاني (تحالف ضد عنف المتشددين) التذكير بالسلبي وتقديم الإيجابي، تكتيك قديم في الخطاب السياسي، ولكن فقط يحتاج إلى ذكاء لتوظيفه بطريقة صحيحة، فإن تجاهل المتشددين في الداخل وأذرعتهم شبه الإيرانية في الخارج، يفسد الطبخة برمتها!
محصلة الملاحظات الخمس، يمكن أن نستنتج من خطاب السيد ظريف، أنه لا يوجد هناك خط فاصل بين الاعتدال والتشدد في طهران، لقد تم في العقود الأخيرة بناء (دولة عميقة) في إيران، مدماكها القوى الميليشياوية من فقراء المدن وتجار الحروب وملالي الحكم، هذه القوى ليس من مصلحتها ولا في تصورها أن يكون هناك استقرار في المنطقة، فهي تعيش وتزدهر وتغتني مالياً على الاضطراب والحروب، مستخدمة وسائل تعبئة شبه جاهزة هي التحيز المذهبي، الذي روج له أيضاً السيد ظريف في مقالته، حيث أشار إلى أن فكر الكراهية والتطرف هو فكر (ضد اليهود والمسيحيين والشيعة)! محاولة فجّة من جديد لاستمالة اللوبي المتعاطف مع تلك الأفكار في الولايات المتحدة!
مقالة السيد ظريف، وإن بدت في ظاهرها رسالة تبرئة من العنف والتوسل إلى الغرب، هي رسالة استمرار التشدد، ولوم الآخر وتقديم تبريرات للداخل الإيراني، إلا أنها تظهر من جديد أزمة النظام الإيراني المستحكمة، والتي أظهرتها قمة الرياض بالبعد عن المداهنة وتسمية الأمور بأسمائها، إيران بين خيارات عليها أن تنتقي منها، إما الصدع للسلام، والخروج من مناطق التوتر من أجل ترك حل المشكلات القائمة في المناطق العربية من أهلها، أو الاستمرار في التدخل السلبي، الذي بالتأكيد سيواجه بطرق مختلفة إقليمياً وعالمياً، فوقت السماح الزمني قد انتهى مفعوله!. . . .
آخر الكلام: إذا كان العقل الإيراني الجمعي قد خضع لتشويه في العقود الأخيرة، مثلما خضع العقل الألماني للتشويه وقت النازية، فإن عقول الآخرين ما زالت قادرة على التمييز!