جريدة الجرائد

قدوة حسنة لصورة الإسلام

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عرفان نظام الدين

مبادرة فردية صغيرة قام بها بعض الشبان والشابات العرب والمسلمين في شكل عفوي قلبت كل المفاهيم ونسفت حملات الحقد والكراهية ونظريات الإسلام و «فوبيا» الخوف من الإسلام واعتباره الخطر الأكبر ضد الحضارة الغربية والإنسانية. ولم تفلح العملية الإرهابية ضد المصلين في مسجد «فينزبيري بارك» اللندني في تغيير هذه الصورة، بل أعطت مفعولاً عكسياً لأنها جاءت من عنصري قال إنه يريد قتل المسلمين ضمن الحملات العدائية، وأثبتت أن الإرهاب موجود أيضاً في الطرف الآخر.

ففي لحظة واحدة أزيلت الغشاوة عن أعين الرأي العام في بريطانيا وتبيّنت حقيقة الإسلام كدين للحب والسلام والأخوة بين البشر والتعايش بين مختلف الديانات والأعراق، كما ظهر معدن الإنسان المسلم والعربي الذي يندفع ليمد اليد لأخيه الإنسان في أيام المحن ومن دون أن يسأل عن دينه أو طائفته ومذهبه وأصله وعرقه ويعرض نفسه للخطر لإنقاذ كل من تتهدد حياته.

مبادرة لم تكلف سوى القليل من المال والجهد والعمل الخيري أعطت مفعولاً يساوي عشرات السنين من الدعاية والدعوة والخطابات ومؤتمرات الحوار بين الأديان والمنشورات والكتب، وانتقل صداها إلى العالم كله عبر البث المباشر في التلفزيونات البريطانية والعالمية حيث لا رقابة ولا توجيه ولا حجب للمعلومات من جانب العنصريين المعادين والأجهزة الصهيونية.

حدث هذا في لندن قبل أيام قليلة عندما وقعت كارثة حريق برج «غرينفيل» في قلب العاصمة البريطانية وذهب ضحيته أكثر من 100 شخص من السكان، عدا المئات من الجرحى والمصابين بحروق أو صدمات نفسية وبينهم عشرات العائلات العربية والإسلامية.

وفي الدقائق الأولى من الكارثة، هبّ العشرات من الرجال والنساء لنجدة السكان، ومنهم من عرّض حياته للخطر بالدخول إلى المبنى المحاصر بالنيران لينقذ أطفالاً ويحمل على ظهره عجوزاً، فيما فتح مسجد «المنار» القريب وكنيسة جنباً إلى جنب أبوابهما لاستقبال المصابين ورعايتهم وتأمين حاجاتهم والتخفيف من مصابهم الأليم.

وخلال ساعة من الزمن، وصلت إلى مكان الحادث مئات الأطنان من زجاجات المياه والأغذية والملابس والفرش والأغطية وُزعت على المصابين الذين فقدوا كل شيء وخرجوا بملابس النوم، إذ وقع الحريق عند الواحدة فجراً في موعد السحور، حين تمكن الكثير من السكان من النجاة بفضل رمضان، لأنهم كانوا ساهرين لتناول وجبة السحور استعداداً لصيام يومهم الطويل في فصل الصيف. واستمر تدفق سعاة الخير إلى المكان المنكوب لتقديم مزيد من المساعدات وإعداد وجبات ساخنة للمصابين بكل اندفاع وتواضع، حتى أن القائمين على الحملة والسلطات المختصة دعوا إلى التوقف عن إرسال المساعدات والاكتفاء بالدعاء والتبرع بالمال لمن يرغب لإعانته على تحمل أعباء الأيام الصعبة. وكان المشهد رائعاً عندما أدى المسلمون والمسيحيون صلاة واحدة أمام المبنى المنكوب.

وهكذا أعطى عناق المسجد والكنيسة وتضامن الجميع في لحظة مأسوية مفعوله ودفع الأجانب إلى التساؤل عن رعاة الخير، ومنهم الكثير من المسلمين والتكلم بصوت عالٍ أمام كاميرات التلفزيونات التي كانت تنقل الحدث المباشر على الهواء، لحظة بلحظة، ومنهم سيدة تحدثت بجرأة وصدق، وتساءلت: «لماذا يشوِّهون صورة الإسلام ولا يتحدثون عن المسلمين إلا عند اتهامهم بالإرهاب والتطرف والعنف؟ لقد رأيناهم يهبون لنجدتنا ويضحون بحياتهم لإنقاذ السكان». في حين تساءلت سيدة أخرى قائلة: «لماذا تركزون عند كل عمل إرهابي على المسلمين والعرب، ولا تُظهرون هذا الجانب الإنساني من صفاتهم عندما يقومون بعمل جيد. لقد رأينا بأعيننا ما يدحض الاتهامات ويثبت الواقع، ففي كل مجتمع أناس سيئون وأناس جيّدون، وفي كل مجموعة إنسان متطرف وإنسان معتدل».

وهكذا، تمكنت مبادرة فردية عفوية من أن تشكل القدوة الحسنة لإظهار صورة الإسلام كدين محبة واعتدال وعمل صالح وتبيّنت شخصية الإنسان المسلم المؤمن بأن عمل الخير واجب عليه ولا فرق فيه بين مسلم وغير مسلم. وانتشرت في الفضائيات والتلفزيونات الأجنبية والصحف والمجلات عبارات جميلة ومعبرة على لسان الناجين: «شكراً رمضان، وشكراً رب رمضان».

هذه المبادرة النبيلة يجب أن تفتح أعيننا على حقيقة جرى إغفالها لأنها استطاعت في لحظة واحدة أن تغيّر في مزاج الرأي العام وتكشف زيف الحملات المغرضة التي انطلقت منذ زمن بعيد وتجددت بعد انهيار الشيوعية لترويج نظريات، مثل «صراع الحضارت» و «الإسلاموفوبيا».

وساهمت في الترويج لهذه المزاعم جهات معادية عنصرية وحاقدة، إضافة إلى الجهات الصهيونية، لكنها كانت محصورة في نطاق فكري وإعلامي محدود إلى أن جاءها الدعم من التنظيمات المتطرفة والإرهابية التي نفذت أعمالاً وحشية وعمليات أدت إلى تأليب الرأي العام العالمي وتشويه صورة الإسلام وتعريض الجاليات الإسلامية في الغرب للخطر.

يُضاف إلى ذلك فشل الحكومات والهيئات الدينية والفكرية والإعلامية في تقديم البديل ومخاطبة الرأي العام بخطاب ديني وإنساني موضوعي، بعيداً من الخطابات الإنشائية والمؤامرات الشكلية للحوار التي ينتهي مفعولها قبل أن يجف حبر بياناتها وتذهب جهودها سدى. وما يزيد الطين بلة ما تتضمنه خطابات دينية تبث عبر الفضائيات وتحض على الكراهية ورفض الآخر وتكفيره، إضافة إلى كتب ومنشورات توزع عبر السفارات، وفيها الكثير من العبارات التي تسيء وتعطي مفاعيل عكسية. وقد أخبرني صديق يعمل في سفارة عربية أنه تلقى أطناناً من الكتب والمجلات للتوزيع في بلد أجنبي. وعندما قرأ بعضها، وجد فيها أحاديث عن الكفار وأبناء القردة والخنازير، وكيفية مواجهتم. وعندما أخبر السفير بما قرأ، ناصحاً بعدم توزيعها، وافقه وطلب منه إتلافها حتى لا يعم الضرر بدلاً من أن تحقق صدى إيجابياً.

وهنا، لا بد من أصوات تتجرأ وتحذر وتضع اليد على الجرح، وتدل على الطريق السليم للدفاع عن أنفسنا وتقديم القدوة الحسنة عن صورة الإسلام السمح وإظهار الإنسان المسلم على حقيقته الخيرة وإيمانه بمبادئ دينه الحنيف ودعوته إلى المساواة والعدالة ودين المحبة والوسطية الرافضة للتطرف والغلوّ، والدعوة إلى عدم التمييز بين إنسان وآخر: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذَكَرٍ وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، صدق الله العظيم.

وهذا يضعنا أمام خيارين، لا ثالث لهما: إما انتهاج سبيل العنف والتطرف والإرهاب والذبح وقطع الرؤوس والدهس والتفجير وقتل المدنين الأبرياء، وهي أعمال تسيء إلى الإسلام وتشوّه صورته، وتحشد العالم ضد المسلمين وتهدد حياتهم ومصيرهم.

أما الخيار الثاني، فهو اتباع سبيل الدعوة «بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن»، والاتجاه إلى عمل الخير والدعوة إلى المحبة والتعايش والقيام بمبادرات مماثلة لمبادرة لندن الرائعة عند وقوع أي حدث مماثل، أو المشاركة في أي مبادرة إنسانية تشكل القدوة الحسنة والمثال الصالح. وهذا يجب ألا يشمل الكوارث فحسب، بل يمكن أن يتطور للمشاركة في أي نشاط خيري وإنساني ورياضي فني عالمي يقدم فيه العرب والمسلمون ما عندهم مما دعاهم إليه دينهم، وهو مكارم الأخلاق.

وأختم مع قصة معبّرة مع الأمير تشارلز، ولي عهد بريطانيا، عندما رعت قناة «أم بي سي» التلفزيونية مباراة «البولو» بين فريق إنكليزي بقيادة الأمير وفريق عربي مشترك، بحضور مئات الشخصيات البريطانية السياسية والإعلامية خُصص رعيها لأعمال الخير. وكان صداها طيباً. وعندما كُلفتُ تقديم الميداليات للفريق الفائز، همسَ الأمير تشارلز في أذني متسائلاً: «كم كلّفكم هذا العمل؟»، أجبته: «مبلغ زهيد... آلاف قليلة من الجنيهات الإسترلينية»، فابتسم تشارلز وأجاب: «هذا عمل رائد، أتمنى أن تُكثروا من مثل هذه المبادرات، لأنها تعطي صورةً واضحة ومشرقة عن حضارتكم».

نعم، هذه الحقيقة التي لا تكلف إلا القليل من الجهد والمال، وعلينا أن نختار بين طريق الفشل والهلاك وطريق النجاح والبقاء.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف