جريدة الجرائد

الغرب و«الإنتاج المشترك» للعدو

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

 الحسين الزاوي


يشهد العالم منذ عقود تحولات جيوسياسية وجيواستراتيجية متسارعة متعددة المظاهر وذات تأثير واسع على مجمل الخريطة العالمية، نتيجة لتقلص المسافات وتراجع الحدود الفاصلة ما بين المجتمعات والحضارات والأنساق الثقافية، إضافة إلى العلاقات الاقتصادية المؤثرة في مصير ومسار الشعوب.

ولعل التحول الأبرز الذي عايشناه وما زلنا نعيش أبرز مظاهره وتجلياته يرتبط بظاهرة ما يسميه المفكر الفرنسي تزفيتان تودوروف ذو الأصول البلغارية ب«الإنتاج المشترك للعدو»، حيث تحيلنا هذه المقولة إلى واقع سياسي معاصر في غاية التعقيد، تميّز خلال السنوات القليلة الماضية بانفجار موجة غير مسبوقة من العنف عبر مختلف مناطق الخريطة العالمية. 
وقد نجم عن هذا الواقع المركّب والشديد الغموض والالتباس، تضخّم في المفاهيم والتصورات المتعلقة بصورة العدو في الغرب الذي لم يكتف بمحاربة الآخر المختلف الذي يعتبره عدواً، بل أسهم بشكل لافت في إنتاجه وفي جعله ينمو ويتغذى ويتعاظم شأنه ومجال تأثيره، انطلاقاً من الخطابات الإقصائية التي ينتجها عن هذا الآخر وعن ثقافته وقيمه وهويته الحضارية. 


لقذ أراد جورج بوش الابن أن يهاجم محور الشر فحوّله بقدرة قادر إلى محاور متناثرة مثل الخلايا السرطانية، تضم فضلاً عن دول المحور الأول دولاً أخرى أدخلها الفشل المؤسساتي وانهيار رموز الدولة في حروب أهلية انتهت بها إلى الخضوع إلى أمراء الإرهاب بمسمياتهم المختلفة من «القاعدة» إلى «داعش» إلى «جبهة النصرة» مروراً بأنصار الشريعة في ليبيا وبوكو حرام في دول إفريقيا جنوب الصحراء. وأرادت الدول الغربية أيضاً، أن تحارب بضعة آلاف من الإرهابيين المعزولين في معاقلهم في الكيانات الافتراضية، فخلقت نفيراً عاماً في وسط كل من يحملون بذور الفكر المتشدد من أجل الانتقال إلى مناطق الجهاد المزعوم في الجغرافيا العربية الممزّقة والمستباحة، ليتحوّل بذلك عددهم من بضعة آلاف إلى عشرات الألوف، فضلاً عن الخلايا النائمة التي تناسلت وانتشرت كانتشار النار في الهشيم. 


وعرف مسلسل الإنتاج المشترك للعدو تحولاً مأساوياً بالنسبة للغرب عندما انقلب السحر على الساحر، وبدأت طلائع المجموعات المتشددة التي ذهبت إلى القتال في العراق وسوريا بالعودة إلى بلدانها في أوروبا لتذيق عواصم الدول الغربية الكبرى، شيئاً من السم الذي ساهمت في جعل شعوب المنطقة العربية، تتجرعه طوال سنوات من الإرهاب والقتل والدمار والتشريد. وذلك بعد أن أسهم الغرب بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا في انهيار العديد من الدول الوطنية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بشكل أدى إلى تفكك النسيج المجتمعي، وأفضى إلى تحقق نبوءة الفيلسوفة الألمانية «حنة أرنت» القائلة: إن غياب الدولة هي بمثابة دعوة مفتوحة من أجل ممارسة العنف. 
ويمكن القول في السياق نفسه، إن الخطاب العنصري المرتبط بظاهرة الإسلاموفوبيا، يسهم في خلق بيئة غير مسبوقة من الكراهية والعداء نحو المسلمين، وتؤدي هذه الظاهرة بدورها إلى ظهور مزيد من الشحن الديني وإلى دفع الكثير من الشباب المسلم المهاجر في أوروبا، إلى تبني الأطروحات المتشددة التي يروِّج لها رموز الحركات المتطرفة التي تتبنى خطاب العنف وتستبيح دماء المدنيين الأبرياء. الأمر الذي يدفعنا إلى الاستنتاج أنه وعوض الحديث عن «الإنتاج المشترك» للعدو، يمكننا أن نتحدث عن صناعة غربية خالصة للكثير من مظاهر العنف والإرهاب التي باتت تعانيها مجتمعاتنا المعاصرة شرقاً وغرباً. 
ويحيلنا هذا التحليل إلى مقولة غربية أخرى، سبق أن عبّر عنها الفيلسوف وعالم السميائيات الإيطالي أمبرتو إيكو، قبل فترة غير بعيدة من وفاته سنة 2016 في كتابه الموسوم: «بناء العدو»، والذي تطرّق فيه إلى قضايا متعددّة تتعلق بالأبعاد الواقعية والخيالية وربما الأسطورية لبناء العدو وتشكيل صورته النمطية في الثقافة الغربية قديماً وحديثاً، بداية من صورة «السراسنة» التي كانت ترمز إلى المسلم «القذر» و«الشرير» في القرون الوسطى، إلى صور العدو الداخلي التي جرى الترويج لها في خضم لهيب الحروب التي عرفتها القارة الأوروبية في الحقبة المعاصرة. وتجعلنا هذه الذاكرة القائمة على صناعة وبناء العدو، نستنتج أن هذا الغرب عندما لا يجد عدواً داخلياً يوجّه الأنظار نحو أخطاره الحقيقية والمفتعلة، فإنه لا يتردد في إبداعه وفي رسم صورته الشيطانية بعناية فائقة. 
وإذا شئنا الحديث بلغة ومصطلحات الجغرافيا السياسية، فإن الأمر يتعلق بالنسبة للغرب، بمسائل ذات صلة بالعناصر الجيوسياسية أكثر من العناصر الإيديولوجية التي كثيراً ما تتصدر المشهد العام وتسهم في تضليل المتابع وفي التباس التحليلات والقراءات الرسمية المتداولة، لأن الدول الغربية لا تتردد في التحالف مع الكثير من القوى التي تتعارض معها من الناحية الإيديولوجية، لكنها لا تتسامح البتة مع من ينافسها على المستوى الجيوسياسي، ويبرز ذلك بشكل جلي عندما يتعلق الأمر بأمن «إسرائيل»، وبالمسائل المتعلقة بمصالحها الحيوية في الوطن العربي، وبالعلاقات مع روسيا والصين على سبيل المثال لا الحصر.
ومن ثمة فإنه عندما يتعلق الأمر بالحسابات الاستراتيجية، فإن الغرب لا يصنع العدو فقط، بل يعمل بكل كفاءة واقتدار على توظيف كل البلاغة والمعجمية الرائجة والمتداولة بشأن هذا العدو، من أجل خدمة أهدافه والدفاع عن مناطق نفوذه.

 

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف