التعددية الثقافية.. وتحديات العولمة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
محمد بشاري
التعددية مسار متطور باستمرار، وأشرنا إلى أن العولمة تعد إحدى عقباته الكأداء، بفعل نزعتها الهيمنية، غير أن دورنا لا ينبغي أن يقف عند حدود التشخيص والاكتفاء بلعن الظلام، لأن المسؤولية الأخلاقية تفرض علينا البحث عن نقط النور التي يمكن أن ترسم آفاقاً أفضل. وحتى لا ننضم إلى جوقة العازفين على وتر التيئيس، فإننا نعتقد أن نقط الضوء هذه ليست بالقليلة، وأن استثمارها يحتاج إلى إرادات خيرة وعقول نيرة، إذ العولمة نفسها يمكن أن تتحول إلى فاعل إيجابي في إقرار التعددية، ذلك أن هناك تحولات دراماتيكية على مستوى العولمة ينبغي أن نمعن النظر فيها، ونستفيد منها في تدبير الاختلافات الثقافية وإقرار سياسات ناجحة للتعددية، منها أن موجة اللاجئين نحو أوروبا لا يفهم منها فقط الهروب من ويلات الحرب، وإنما أيضاً السعي نحو الانخراط في العولمة بطريقة ما، فلولا الاقتناع بالشعارات التي روجت حول الغرب وقيمه التي جاءت بها رياح العولمة لما كانت موجات اللجوء صوب الدول الغربية وإنما نحو بقاع أخرى أقرب جغرافيا إلى البلدان التي فر منها اللاجئون. وفي مقابل ذلك، تتنكر معظم هذه الدول لشعاراتها ويتهرب معظمها من الالتزام ب«الكوتة الأوروبية»، التي فرضت عليها. وهذا ما يمكن اعتباره نمطاً من أنماط الخروج من العولمة والتهرب من استحقاقاتها. فمن كان يتخوف منها صار يسعى إلى الانخراط فيها، ومن كان يبشر بها صار يعمل على الهروب من استحقاقاتها، وهذا ضرب من الخروج منها.
أما الملاحظة الثانية، فهي أن دهاقنة العولمة لا يجدون غضاضة في الإقرار بالخصوصيات والتأقلم مع الاختلافات الثقافية والاستجابة لاستحقاقاتها إن كان من شأن هذا التحول أن يراكم الأرباح ورؤوس الأموال. وهنا مكر العولمة والمتحكمون في مساراتها من القوى الكبرى، إذ لا مشكلة لهذه القوى في أن تحترم خصوصية الآخرين وتعترف بالتعددية إزائهم حين يكون الربح المادي مضموناً، فتصنع شركات كبرى منتجات خاصة بالشرق الأوسط مثلا، وهي المنتجات ذاتها التي تصنعها لأسواقها الداخلية إلا أنها تمنحها خصائص المنطقة التي تصدر إليها (سيارات خاصة ببيئة صحراوية، منتوجات «حلال»...). إن هذا التحول من (Globalisation) إلى (Glocalisation)، وهذا «الإقرار» بالتعدّدية الذي تعبّر عنه الرأسمالية المتوحشة من أجل مراكمة أرباحها لا نجد له أثراً في السياسات الثقافية المعتمدة مع من ينتمون إلى بعض هذه الثقافات في المجتمعات الغربية، وتلك مفارقة تفسّر الفشل في تدبير التعددية وتجلّي مخاطر تبنّي النزعات التمركزية الهيمنية وفرض الهيمنة الثقافية على ثقافات بدعوى تخلفها أو اختلافها أو تصنيفها ضمن دائرة ما يسميه الأنثروبولوجيون بالثقافات البسيطة في مقابل الثقافات المركبة، الأمر الذي من شأنه أن يحول الاختلافات الثقافية إلى خلافات قد تؤجج نار الكراهية، وتفضي إلى حروب تحت عناوين الهوية، الأمر الذي يهدد بشرّ مستطير مستقبل البشرية.
وهذا مصير ينبغي العمل على تجنبه من خلال الوعي بأن التعددية ليست مسألةَ مهادَنة و«شراء» للسلم الاجتماعي، وإنما هي مسألة ترتبط بسؤال الوجود (نكون أو لا نكون)، إذ إن أخلاق الاعتراف وسياسات التعددية الناجعة والناجحة وحدها الكفيلة بتحويل الاختلافات الثقافية إلى مصدر غنى وإثراء للإنسانية وثقافاتها ومستقبلها.