مصير عرسال لا يختلف عن مصير لبنان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
إياد أبو شقرا
صفقة «حزب الله» الأخيرة في شمال شرقي لبنان مع «جبهة النصرة»، التي تقضي بتوسيع مسلسل التهجير السوري، تختزل في آن معا عدة حقائق غير مشجّعة.
على الصعيد اللبناني، «الصفقة» غير مشجعة في ظل تحوّل الدولة اللبنانية بمختلف مؤسساتها السياسية والأمنية والعسكرية إلى مجرد غطاء «شرعي» رث لحالة احتلال حقيقي. رسمياً، للبنان رئيس للجمهورية وبرلمان وحكومة تضم كل المكونات الدينية والطائفية، إلا أن السلطة الفعلية بيد القوة المسلحة الوحيدة الباقية خارج إطار الدولة، وبرضا الدولة أو رضوخها.
هذه القوة، أي «حزب الله»، فرضت مرشحها لرئاسة الجمهورية على المنصب بعدما شلت البلد لقرابة السنتين منعت خلالها انتخاب أي رئيس لا ينفذ مشيئتها. وتتمثل اليوم بحضور حاسم في حكومة ائتلافية هشة تقوم على «توافق الضرورة» و«تسلط الأمر الواقع»، وظيفتها الوحيدة ملء الفراغ بمثله. وفي البرلمان، تُصادِر هذه القوة أيضا بفضل «تسلط الأمر الواقع» تمثيل إحدى أكبر الطوائف الدينية اللبنانية، وتستغل مصادرتها لطائفتها لتحصين وضعها لبنانياً والانطلاق منه لاختراق الطوائف الأخرى. ولقد كان الإنجاز الأبرز لها أخيراً فرض إرادتها في موضوع قانون الانتخاب، حيث سيسهّل «التمثيل النسبي» لها ولأدواتها تحقيق الاختراق المنشود للطوائف الأخرى، بينما تبقى معاقلها شبه مقفلة. وهكذا، بفضل فائض القوة هذا غدا «حزب الله» - ولو بأوامر خارجية - يحتكر قرارات الحرب والسلم، ويفتح جبهات قتال وغزو خارج لبنان من دون العودة إلى مؤسسات السلطة الرسمية.
وعلى الصعيد السوري، فهي غير مشجعة لسببين رئيسيين: الأول هو أن «حزب الله» بات منذ بضع سنوات تنظيماً «عابراً للحدود» اللبنانية السورية منذ تدخل في الحرب السورية تحت مبررات تنوعت كلما ازداد عمق دوره القتالي واتساع نطاقه، بالتنسيق مع مرجعيته السياسية والعسكرية الإيرانية. ذلك أنه برّر عملياته الأولى داخل الأراضي السورية بـ«حماية المواطنين اللبنانيين» المقيمين في القرى الحدودية المحيطة ببلدة القصير في محافظة حمص. وبعد ذلك تحول المبرر المعلن إلى «حماية المراقد والمزارات المقدسة من التكفيريين» (!). ولم يلبث أن ظهر مبرر ثالث هو التصدي «للجماعات التكفيرية التابعة لأميركا وإسرائيل»، والدفاع عن نظام بشار الأسد «المقاوم» لإسرائيل (!). ولكن، بغض النظر عن المبرّرات، فإن «حزب الله» أصبح جزءاً من قوات الاحتلال الناشطة في مناطق معينة من سوريا، ولقد ترسخ «احتلاله» بعد عمليات تهجير وتبادل سكاني منظمة سواء في المناطق السورية المتاخمة للبنان (وادي بردى والقصير والقلمون الغربي)، أو المساهمة مع الميليشيات العراقية والإيرانية وغيرها عبر التجنيس والتوطين في تغيير الهوية المذهبية لعدد من المناطق السورية، ولا سيما في ضواحي دمشق.
أما السبب الثاني، فهو العمل على فرض إعادة النازحين السوريين إلى لبنان قسراً إلى بلدهم الأم التي باتت مقسمة واقعياً إلى مناطق نفوذ وسيطرة إقليميين ودوليين، وهذا يعني إجبارهم على الاستسلام النهائي للنظام الذي هجرهم وشردهم برعاية إيرانية روسية. وفي حسابات إيران وحزب الله - بجانب بعض القوى المسيحية اللبنانية السائرة في ركاب الحزب - أنه لا بد من طرد النازحين لضمان إبقاء ضبط الديموغرافية الطائفية في لبنان، مع التذكير بأن السواد الأعظم من اللاجئين والنازحين قسراً من العرب السنة. والواضح هنا أن الحزب الذي مارس اقتلاع السنة وتهجيرهم من ديارهم داخل سوريا، ما كان ليقبل بهم في لبنان، حيث يراهن على هيمنة ديموغرافية مطلقة خلال عقود قليلة من الزمن على حساب الطائفة الوحيدة التي تعترض سبيل هذه الهيمنة... الطائفة السنّية اللبنانية. وهنا، كان من الأهمية بمكان بالنسبة للحزب - واستطراداً لإيران - إخلاء «الجيوب» السنّية أو عزلها، وهنا تأتي المهمة التي فرضها «حزب الله» فرضاً على الدولة اللبنانية في بلدة عرسال الحدودية السنّية التي كانت المحطة الأولى لاستقبال اللاجئين والنازحين السوريين.
ونصل إلى الصعيدين العربي والشرق أوسطي الإقليمي. هنا أيضاً المشهد ككل غير مشجع نتيجة الارتباك الأميركي والتردد الأوروبي والإصرار الروسي. في واشنطن تنم حالات التعيين والعزل السريعة لشاغلي بعض المواقع الحساسة في البيت الأبيض والأجهزة السياسية والأمنية عن ارتباك غير مسبوق. وأمس شهدنا النكسة الكبرى في التصويت داخل مجلس الشيوخ على إلغاء برنامج الرئيس السابق باراك أوباما للرعاية الصحية ما يعزز الانطباع بأن الارتباك داخل البيت الأبيض ربما بدأ ينعكس سلباً على الكتلة الجمهورية في الكونغرس، وقد يتسارع مع بدء العد العكسي لانتخابات منتصف الولاية. وأخيراً، وسط جو تسممه الاتهامات والأقاويل في واشنطن - كثير منها يقودها الإعلام المناوئ للرئيس دونالد ترمب - تجد الإدارة صعوبة باعتماد مقاربات استراتيجية قاطعة إزاء التحديات الدولية التي تواجهها أميركا. ولئن كانت العلاقة مع موسكو تبدو مشوشة، فهي ليست أقل تشوشاً في الملف الإيراني. مع موسكو، الطامحة للعب دور محوَري في الشرق الأوسط، الذي أهمل أوباما شعوبه خدمة للتوافق مع طهران، تستند «إيجابية» ترمب إلى المصالح المالية التجارية، بينما ثمة موقف آخر لـ«صقور» الجمهوريين الذين قامت فلسفتهم السياسية منذ الحرب الباردة على ثوابت «التهديد» الآتي من موسكو. أما في الموضوع الإيراني، فرغم شبه الإجماع على مواجهة مشروع طهران النووي، يغيب الإجماع عن المقاربات الأميركية في المناطق العربية التي تسعى القيادة الإيرانية لإخضاعها واحتلالها، وبالأخص، في سوريا ولبنان.
بناءً عليه، فإن «الصفقة» بين «حزب الله» و«النصرة» إنما عقدت بين تنظيمين متطرفين عملا بحجة «العداء» الوجودي على تعزيز لغة التطرف والتطرف المضاد، وبالتالي، تسهيل إجهاض الثورة السورية. والآن بعد خراب سوريا وتقاسمها، يظهر التوافق على تجميع المتطرفين المرفوضين دولياً في مدينة إدلب ومحافظتها. وإذا كان هناك من خلاصة تستخلص، فهي أن أصحاب القرار الإقليميين، بالتنسيق مع رعاتهم الدوليين، يعدون لترتيب «نهائي» لشمال غربي سوريا.
أما في لبنان، فعلى اللبنانيين، كل اللبنانيين، التنبه قبل فوات الأوان إلى أن مصير لبنان ككيان وكدولة لن يختلف عن مصير عرسال...