الاستعمار- الدولة والثقافة الوطنية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عبد الإله بلقزيز
لـئن كانت الحقبة الاستعمارية، فـي بلادنا العربية، قد أحدثت هزّةً كبيرة فـي النظام الثقافـي والقيمي الـموروث، وأدخلت فـيه مقداراً غيرَ يسيرٍ من الأفكار والقيم الوافدة من الـمدنيّة الأوروبية، من دون أن تقطع معه قطيعةً تامّة -على مثال قطيعتها الكبرى مع النظام الثقافـي التقليدي فـي مجتمعات أوروبا- فإن حقبة الاستقلال وبناء الدولة الوطنية «الحديثة» شهدت على ضروبٍ من استئناف سياسات إدارة «التعايش» بين الـمنظومتين التقليدية والحديثة، فـي مجال الثقافة والقيم، وتنظيم التوازنات بينهما منعاً للصدام والانفجار؛ وهي عينُها السياسات التي أدارتها السلطات الاستعمارية فـي حقبة الاحتلال. إن ما يعنينا هنا أن نرصد أمرين: نوع الثقافة التي تكوّنت فـي الـمجتمعات العربية فـي سياق تجربة الدولة الوطنية، ومدى ما أحرزته تلك الثقافة الـمتكوّنة من استقلالية ومن كيانية ذاتية فـي مواجهة تأثيرات شديدة خارجية عليها من عالـمٍ، غربيّ، نزّاعٍ إلى التغيُّر.
من مخاض الصلة الـمضطربة بين القديم والحديث، فـي الحقل الثقافـي العربي، وبين مرجعين لهما متقابلين (الـمرجعية العربية-الإسلامية ذات الـمضمون الديني الكثيف والـمرجعية الأوروبية الأنوارية الـمتحررة من ذلك الـمضمون)، تكوّنت مساحة ثقافـية لـم تكن مشدودة إلى فكرة الأصالة (الإسلامية) بمقدار ما لـم تنْسَق فـي معاصرتها نحو التأورُب أو التغربُن. والـمساحة تلك كانت الأرضية التي شُيِّد عليها ما يُعْرَف باسم الثقافة الوطنية. لـم تأت هذه الثقافة، استئنافاً للـموروث الثقافـي الإسلامي، لأنّ مبناها على الأمّة لا على الـمِلّة، ولا امتداداً للثقافة الأوروبية الزاحفة، لأنها (ثقافة) تشبعت بفكرة التحرُّر والاستقلال الوطني. وبالقدر عينِه، لـم تقدّم نفسَها بما هي ثقافة مقارِعة للتراث وللغرب، لأنها كانت تجد فـي ذلك التراث، كما فـي ذلك الغرب، وجوهاً من الفكر والثقافة مضيئة تبني عليها. لقد كانت، بمعنى ما، ثقافة ذات سيادة واستقلالٍ ذاتي نسبي عن مرجعين تكوينيَّين فـيها، وأوجدت لنفسها منظومتها الخاصة من الهواجس والإشكاليات بعيدًا، إلى حدٍّ ما، من تلك التي طرحها القدامى على أنفسهم فـي عصرهم، والتي يطرحها الغربيون على أنفسهم.
والحقّ أنه ما من سبيلٍ آخر إلى فهم عوامِل تكوُّن الثقافة الوطنية وأسبابِه إلاّ بالعودة إلى الواقعة الجديدة التي تكوّنت، تاريخياً، فـي البلاد العربية غداة انفراط الإمبراطورية العثمانية و وزحْف الاحتلال الكولونيالي ثم جلاء جيوشه، وهي قيام الدولة الوطنية على قاعدة هوياتٍ محلية فُصِلت، فصلاً، عن إطارها الـمرجعي الأكبر: الإسلامي والعربي. تعهّدتِ الدولةُ الوطنية رابطتها الاجتماعية الداخلية الصغرى بالرعاية والترسيخ من خلال منظومة قوانينها الوطنية، كما من خلال التعليم وبرنامج التكوين الوطني، ناهيك عن تنمية مصالح داخلية شُدّت إليها شبكةٌ من العلاقات الاجتماعية والفئات والطبقات. ومع الزمن، رسَّخت الدولةُ الرابطة إياها، والشعور الجمْعيّ بها، مستفـيدةً من قوّة الدفع التي أطلقتها عملية التحرّر الوطني من الاحتلال الأجنبي، ومن الآمال العِراض التي أشعلتها فكرةُ الاستقلال الوطني فـي الـمخاييل والإرادات. وإذا كانت الثقافة الوطنية ثمرة لهذه السيرورة، التي أنجبها تكوُّن الدولة الوطنية، وعامِلاً شديد الأثر فـي تمتين نسيج الدولة تلك وشرعنتها، فإن نفوذ الثقافة الوطنية وسيادتها، فـي الـمجتمع الوطني، لـم يكن يسيراً ولـم تكن طريقُه سالكة؛ فلقد أبدت الثقافةُ الـمشدودة إلى روابط أعلى -غير الرابطة الوطنية- مثل رابطة العروبة والإسلام، أشكالاً من الـمقاومة شديدةً فـي وجه تهميشها أو الاعتياض عنها بثقافة مطعون فـي شرعيتها.
وما كان يمكن الثقافة الوطنية أن ترُدَّ الاعتراض عليها والـمزاحَمة إلاّ من طريق الدولة التي تحميها. وكان الرد يجري بوسائل مختلفة أظهرُها فـي التأثير نظامُ التعليم والنظام الإعلامي. ومع أنّ مركز الثقافة الوطنية قد حُفِظ فـي الـمجتمع، وتراجع الخوفُ من فقدانها الدورَ والجاذبية، إلاّ أنها لـم تضع نفسها، فـي الغالب من أحوالها، فـي مواجهة العروبة والإسلام اللذين ظلاَّ بُعديْن من أبعادها جنباً إلى جنب مع الـمنظومة الثقافـية الغربية، بل هي كثيراً ما وجدتْ نفسها تتوسّلهما، أو تتوسّل أحدهما. وحدث ذلك فـي الأوقات التي كانت ترتفع فـيها معدّلات الهوية فـي مواجهة ضغط أجنبي على الـمجتمع والدولة. على النحو عينِه، مالت إلى تغليب توسُّل الـمنظومة الثقافـية الغربية لـمواجهة دعوات الأصالة وأفكارها، أو التطرف الديني والانغلاق، كما يحصل اليوم، بل منذ عقودٍ خلت، بمناسبة صعود تيارات الأصولية الإسلامية وعودة الفكر الـمحافظ إلى الـمجتمع والـميدان الثقافـي.
هذا فـي ما خصَّ نوع الثقافة الذي نشأ فـي أكناف الدولة الوطنية، أما مدى ما أحرزتهُ الثقافة تلك من سيادةٍ واستقلال ذاتي نسبي فـيُبْحث فـي علاقتها بالـمنظومة الثقافـية الغربية، لا بالـمنظومة العربية الإسلامية؛ فالأخيرةُ، ابتداءً، منظومةٌ محلّية لا برّانية؛ وهي، ثانيًا، لـم تمثــِّـل خطراً كبيراً على الثقافة الوطنية الـمحمية بالدولة ونظامها التعليمي؛ أمّا الـمنظومة الثقافـية الأجنبية الحديثة، ثالثًا، فلـم تعد أوروبية حصراً، مثلـما كانت إلى حدود منتصف القرن العشرين، بل باتت غربية بدخول الثقافة الأمريكية شريكًا فـيها. وإذا كان خوف الثقافة الوطنية من الـمنظومة الأوروبية قد تبدَّد مع جلاء الاحتلال الأجنبي، وأعقبه انفتاحٌ على ثمراتها التنويرية من غير تحفُّظ، فإنّ بعضَ ذلك الخوف تجدَّد مع زحف الـمنظومة الثقافـية والقيمية الأمريكية على العالـم، وانصرف معظمُه إلى الخشية من اختراق قيمها الجديدة للـمنظومة الـمجتمعية. ومع ذلك، ظلت الثقافة الوطنية -وإلى حدود بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين- قادرةً على الدفاع عن استقلالها الذاتي، وإن بشكلٍ نسبي، وعلى التأثير فـي الاجتماع الوطني الداخلي مستندةً، فـي ذلك، إلى قدرة الدولة على حماية سيادتها وأمنها الوطني فـي الحدّ الأدنى الضروري.