حلف الفضول ومنظومة التسامح
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
طيب تيزيني
كانت عملية التأسيس لمنظومة العدالة والتسامح والحرية في التاريخ الإسلامي الأول، وبين سنتي 590 ميلادية و595، حيث التقى أبرز وجوه مكة للتداول حول ذلك. وكان هذا قد حدث في دار أحد عقلاء مكة وهو عبدالله بن جدعان. وكان حدثاً مهماً نظراً لما توصلوا إليه من نتيجة شكلت منعطفاً في التاريخ العربي قبل الإسلام. فقد كان ذلك حقاً تحولاً أولياً في التهيئة للخطوة الكبرى التالية. أما حدوث هذا التحول النوعي فقد جاء في سياق القطيعة المعرفية والاجتماعية مع المنظومة الجاهلية والاتجاه إلى ما بعدها. أما النتيجة الحاسمة لذلك الحلف، حلف الفضول، فقد تمثلت في التعاهد «على أن ينتفي الظلم من مكة، وأن يُرد عليه إذا كان موجوداً، حتى تُرد على المظلوم ظلامته».
كان ذلك قبل الإسلام مع بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وحين أتى هذا النبي الكريم، أعلن موافقته على حلف الفضول ذاك، مُعلناً ما عاشه: «لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبدالله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت».. وفي التوثيق التاريخي، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، رفض كل الأحلاف والاتفاقات المجمعة، التي تمت في مراحل «ما قبل الإسلام» باستثناء حلف الفضول. فحتى اللحظات الإيجابية في التاريخ الجاهلي، يمكن جعلها مكسباً في تاريخ العدالة الإنسانية، ويمكن إلحاق ذلك الحلف في عصرنا المعيش بأية منظمة من منظمات الحقوق الإنسانية، واعتباره خطوة إرهاصية لتأسيس تلك المنظمات.
وقد دلل التاريخ العربي الإسلامي اللاحق على مدى أهمية الدفاع عن حلف الفضول، وعلى التطور الذي تلاه من حيث المساواة، والاقتراب كثيراً من منظومة الحقوق والواجبات الإنسانية، التي أخذنا نلاحظ انتشارها في العالم الحديث والمعاصر، وخصوصاً في مرحلتنا التي نعيشها بكل ما تحمله من اضطراب في المفاهيم المتعلقة بالمجتمع الإسلامي، والمجتمع المدني، بحيث نلاحظ أن الأول منهما يمكن أن يتصل بثنائيتهما خصوصاً في إطار مجتمع عربي إسلامي ديموقراطي، بما فيه من أطراف إنسانية متعددة. وسترسخ مواقف عقلانية تأسيسية مهمة، فيما يتصل بالعالم العربي الإسلامي، والعالم الآخر المسيحي.
وفي هذه الحالة، نلاحظ أن ثنائية دعوات الحياة.. والموت وجدت في مراحل من تاريخ الأديان، وفي لجة الصراع وتداخل المصالح، كانت هذه الأخيرة تفرض نفسها، بحيث يُفضي ذلك إلى صراعات دامية، ففي الإمبراطورية الرومانية مثلاً، كان المؤمنون المسيحيون يُقتلون لأقل الأسباب الملفقة. وتوقف ذلك، حين أعلن قسطنطين حرية الأديان والتدين في عام 313م.
أما اليهود في المناطق الأرثوذوكسية، فقد خضعوا لعمليات ذبح بسبب دينهم في القرن التاسع عشر، وتأتي أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لتظهر حالة من الرعب والاإرهاب باسم مفاهيم مغلوطة للدين.
إن كل ذلك الجنوح المنحرف المتطرف ينتج حالة من الاضطراب في العالم، كما في البلدان المنتشرة فيها الأديان، ما خلق اضطراباً عميقاً جديداً في العالم. ونحن لا نستطيع إلا الإقرار بذلك، في سبيل ضبط عناصر التعصب واللامساواة والظلم في العالم. أما ما يتصل بالإسلام، فإننا نلاحظ خطاً ناظماً لوجوده واستمراره بالتساوي مع حالة أو حالات الاضطراب في العالم العربي، ومع الموقف منه في بقع أوروبية، هنا وهناك مناهضة له بدعاوى علاقة مع التطرف تزعم أنها آتية من العالم العربي والإسلامي، الذي أخفق منذ العصر الحديث في إنجاز مشروع نهضوي حضاري، وانتهى اليوم إلى تحطم ذلك العالم في كثير من مواقفه.
والآن، بعد المصائب والانهيارات التي نعيشها راهناً، تأتي المجموعات الإسلاموية المتطرفة لتمارس العنف والقسر في مواجهة من تراهم خصومها ونواقضها، فترمي شرورها في الحُطام الملتهب في العالم الإسلامي العربي، كما في أوروبا، زاعمة أنها تمثل الصوت «الذي يقود إلى الثأر للإسلام»، فتقع في «محرقة الزيف» منتهية إلى الوهم والاندحار. هذا مع أن إسلام العصر العقلاني التنويري هو الأقرب إلى روح الدين الحنيف الحقة حين يعلن أنه «لا إكراه في الدين» وكذلك «فذكّر إنما أنت مُذكّر، لست عليهم بمسيطر»، وما أعلنه علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، حين وحد بين النزعة الإنسانية والرؤية الدفينة: ولا تكونن (على الناس) سبعاً ضارياً تغتنم أُكلهم، فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق. ها هنا تنتصر الإنسانية والديموقراطية.