جريدة الجرائد

كوبري علوي

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

 مأمون فندي

 عندما تنزل من الطائرة وتدخل القاهرة تجد نفسك أمام غابة من الكباري العلوية التي تحاول تجاوز أزمة مرور، وهو منظر نادر ومدهش في الوقت ذاته. ومع ذلك، ليس هدف المقال الكتابة عن أزمة مرور القاهرة، أو حتى عن القاهرة. الهدف هو الكتابة عن الكوبري العلوي كمفهوم مصري،

وربما عربي لحل المشاكل، كبيرها وصغيرها بالقفز فوق المشكلة بديلاً عن حلها، فبدلاً من تنظيم المرور تحت على الأرض وبناء أرصفة وتعليم الناس التحضر في قيادة السيارات، وفي المشي على الأرصفة، وكلها أمور بسيطة، لكنها تستلزم قليلاً من العمل، اخترع المصريون فكرة الكوبري العلوي، أي القفز على المشكلة وليس حلها. وسميت الكباري العلوية في مصر بأيام انتصارات أو مواقع حربية، وأشهرها كوبري أكتوبر، وهو أطول كوبري علوي في مصر يمتد من شمال القاهرة إلى جنوبها، أي من مصر الجديدة إلى الجيزة، أي يتجاوز حدود القاهرة إلى محافظة أخرى هي محافظة الجيزة. وفي هذا الكوبري رمزية مهمة؛ لأنه لا يشير إلى حل اختناق مروري في شارع صغير في وسط القاهرة، بل يقفز فوق كل القاهرة، أي أن القاهرة «اللي تحت» غير قابلة للإصلاح، ولا حل إلا بالقفز فوق كل مشاكلها. في هذا رمزية لطريقة حياة عند المصريين الجدد، القفز فوق المشاكل هو الحل.

ليس هناك رمزية أوضح وأكثر إلحاحاً وإزعاجاً للعقل الإنساني من محطة الإسعاف. والإسعاف هو الإنقاذ السريع، ورغم أن كباري القاهرة العلوية والمعلقة صممت لحل مشكلة الإسعاف، لكن يبقى الإسعاف غير ممكن في القاهرة. فمن شبه المستحيل أن تمر سيارة الإسعاف في القاهرة لإنقاذ مريض كما تمر في مدينة مزدحمة مثل لندن أو نيويورك، فطريق الإسعاف شبه مسدود تحت الكباري المعلقة حرفياً ورمزياً. والإسعاف كمحطة لمن لا يعرفون القاهرة تقع في تقاطع القديم والجديد بين شارعي رمسيس (الذي يحمل اسم الفرعون)، و26 يوليو، الذي يرمز إلى ثورة يوليو (تموز) 1952 (والتي أوصلتنا إلى هنا)، والذي يقطع النيل إلى منطقة الزمالك، وكان هذا الشارع في وسط البلد يحمل من قبل اسم ملك قريب، وهو الملك فؤاد. وللآن بعض الناس يسمونه شارع فؤاد بدلاً من اسمه الجديد. وموضوع تغيير أسماء الشوارع ومحو ذاكرة المدينة هو موضوع يحتاج إلى مقال مستقل؛ ففيه عملية جور اجتماعي وتاريخي، ومع ذلك لا يتأثر العرب بفكرة محو ذاكرة المدن. المهم هو أن منطقة الإسعاف التي توحي ذهنياً بالسرعة وسيولة الحركة، وفكرة الإنقاذ، هي من أكثر مناطق القاهرة ازدحاماً، وغالباً ما يكون فيها المرور متوقفاً تماماً، وتلك صورة لها دلالتها على الثورات والتغيير، وعلى المريض الذي اسمه مصر وعلى قدرة المصريين على مواجهة المشاكل بحلول ناجعة من عدمها... الإسعاف معطل. والكباري كما الثورات تطير فوق المشاكل ولا تواجهها، تلف وتدور حول الأزمات كما الطريق الدائري، ويدخل المصريون في «حيص بيص» عندما ينزلون من الكباري إلى وسط المشكلة ووسط البلد.
الغريب في الأمر هو أن إقامة الكباري كحيلة لتجاوز المشاكل المصرية أصبحت تجد دعماً إقليميا، فبدلاً من ربط الدعم العربي مثلاً لمصر بحل مشاكل على الأرض تمنح الأموال لدعم فكرة الهرب من مواجهة المشكلة. القاهرة لا تحتاج إلى حل؛ فهي مدينة فاشلة في نظر من يحكمون؛ لذا يجب إقامة عاصمة إدارية جديدة خارج القاهرة، ومشروع العاصمة الإدارية هو كوبري علوي آخر. أي تجنب حل المشكلة ليكون الهرب لا المواجهة هي الحل.
روما مثلاً لا تختلف عن القاهرة، وكذلك باريس، لكنها مدن حكمها رجال يواجهون المشاكل ولا يهربون منها. عمدة باريس مثلاً هو معمل لصناعة القادة، فجاك شيراك مثلاً كان عمدة لباريس قبل أن ينتخب رئيساً لفرنسا. الرئيس على الأقل أدار مدينة كبيرة بنجاح، وهذا مؤشر على قدرات الرئيس والمدينة من التحضر والمدانة، والرئيس المدني هو من أدار مدينة وفيها من دلالات التحضر البشري.
يمكن للأحياء الفقيرة والقديمة في مصر أن تتحول إلى تراث جميل وأسواق للمشاة، بدلاً من عشوائية المباني الجديدة. تخيل إعادة ترتيب أحياء القاهرة القديمة على غرار الحي اللاتيني في باريس أو كوفنت غاردن في لندن ستجد القاهرة من أجمل المدن القديمة. المشكلة مشكلة خيال وذهنية جمال عالم المشاة على الأرض مقابل ثقافة قبح الكباري العلوية.
لماذا لم تقم الكباري العلوية كغابات فوق روما وباريس وأقيمت فوق القاهرة. الفارق في رمزية الكوبري العلوي من حضارة تواجه المشاكل على الأرض من أجل حلها وشعوب تهرب من المشاكل أو تقفز فوقها، وتوهم نفسها بأنها حلتها، وتجد من يصفق لهذا الحل الوهمي بالتكرار الإعلامي المستمر للكوبري العلوي بوصفه إنجازاً وطنياً.
ولا أذكر عدد المرات التي شاهدت فيها شاشات التلفزيون تلمع احتفالاً بالرئيس وهو يفتتح كوبري علوياً آخر من السادات حتى مبارك، فعمري كله لا يتجاوز مدتين رئاسيتين للسادات ومبارك، وآخر أيام عبد الناصر. تخيل مواطناً أميركياً أو بريطانياً أو فرنسياً في الخمسين من عمره يقول لك إن عمره يساوي مدتين رئاسيتين؟ أعتقد أن الذهول قد يصيبك، لكن هذا هو حالنا، ونتيجة لتكراره أصبح جزءاً من طبيعتنا، لا يحثنا على أي نوع من التفكير. مثل كبارينا العلوية بكل قبحها المعمارين لكنها لا تستوقفنا؛ لأننا أدمنا الهرب من المشكلة بديلاً لحل المشكل، وصدقنا أنه هو الحل الناجع، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. الكوبري العلوي أسلوب حياة.
الكوبري العلوي أسلوب تفكير أيضاً، فإذا أخذنا آخر مشكلة بين مصر والولايات المتحدة، حول حجز جزء من المعونة الأميركية مقابل تحسين ملف حقوق الإنسان في مصر، وقمنا بتحليل ما كتبه بعض المصريين عن المشكلة نكتشف الكوبري العلوي. بينما المشكلة بوضوح هي المعونة مقابل حقوق الإنسان، وهذا يأتي (لمن يفهم ديناميات المجتمع الأميركي) في إطار ضغط الرأي العام الأميركي على النواب في الكونغرس، خصوصاً هؤلاء الذين يواجهون انتخابات التجديد النصفي، نجد التحليل المصري على طريقة الكباري العلوية «أصل الموضوع واشنطن تريد تبعية الجيش المصري وتحويله إلى جيش ميليشيات لمحاربة الإرهاب، وأصل الموضوع أن مصر مستهدفة»، وبعد أن ينتهي المحلل من بناء الكوبري العلوي بعد أن يكيل الشتائم للكونغرس وأميركا واللوبيات... إلخ، في النفس ذاته يشيد بحكمة المسؤولين لتغليبهم العقل وقولهم بأهمية علاقات مصرية أميركية متينة! ترى أي عقل هذا الذي يجمع المتناقضات التي لا تحل على الأرض ويواجهها بكوبري علوي من الكلام الفارغ، الذي إذا ترجم إلى أي لغة من اللغات الحية لما صدقه طفل في الخامسة من عمره.
ليس هذا هو المثل الوحيد، فالأزمة القطرية اليوم أيضاً يحاول الإخوة في قطر بناء كوبري علوي فوق المشكلة، بدلاً من مواجهة مطالب الدول الأربع المقاطعة ليس كل المطالَب، لكن حتى بعض المطالَب بدلاً من القفز فوق المشكلة وبناء كوبري علوي لتفادي حلها.
يستطيع القارئ أن يحصي عشرات الأمثلة، كلٌ في بلده، لكن الكوبري العلوي بصفته مفهوماً مسيطراً على العقل العربي أمر يحتاج إلى نقاش مثل ظاهرة «فاتني القطار» التي تحدثت عنها في مقال سابق. الكوبري العلوي أياً كان اسمه أكتوبر أو رمسيس هو في النهاية هرب من حل مشاكل المدينة ومدننا العربية، كما سياساتنا مخططة بناءً على كباري علوية، دونما مواجهة المشاكل الحقيقية على الأرض.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف