آخر الفلسطينيين...؟!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بكر عويضة
ليس مفهوماً لماذا يضع كُتّاب مقالات، أو واضعو كُتبٍ، أو ناظمو قصائد، أنفسهم في مآزق مبالغات غير ضرورية، بل ليست مطلوبة منهم أساساً. المقصود هنا، تحديداً، إطلاق صفات على أفراد في الحقل العام ليست تكتفي بأن ترفع الواحد منهم أعلى درجات العُلا، التي قد يستحيل لأي فرد بلوغها، بل تذهب أبعد فتجعل من أحدهم آخر الرجال، مثلاً، أو آخر ما وَلدَ الوطن، ذكراً أو أنثى.
ذلك أعجب من العجب، حقاً. تداعى الخاطر أمامي إذ صدم بصري عنوان كتاب صادر حديثاً يقول: «الفلسطيني الأخير». تطلب الأمر أن أقرأ غير مرة، للتأكد أنني لم أخطئ القراءة. أيُعقل أن يقرر فرد أحقية أي امرئ بأنه آخر من يحمل جنسية موطنه؟ كلا، بالطبع. ولن يشفع، بتقديري، لمن وضع ذلك العنوان الصادم، أنه يُتبع بسطر فرعي يوضح: «صعود محمود عباس وحكمه». سوف أسمح لتقديري بتخيّل أن ما شطح إليه مؤلفا الكتاب، غرانت رملي وأمير تيبون، لن يكون موضع رضا الرئيس الفلسطيني نفسه. طالعت عرضاً للكتاب الأحد الماضي في موقع «إيلاف» فلم أعثر على ما يشرح، أو يبرر، فلسطينياً، سياسياً، مهنياً، أو إنسانياً، لماذا اختار المؤلفان الجزم بإعطاء الرئيس عباس صفة آخر فلسطيني، رغم أن أحدهما (رملي) باحث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات وزميل زائر (سابقاً) في المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية، فيما ثانيهما (تيبون) صحافي إسرائيلي متخصص في الشؤون العربية.
تحتار بالفعل في فهم تهوّر كهذا من قِبل بعض حاملي مسؤولية القلم. قبل أشهر ليست بعيدة زمنياً، صدمني عنوان مقال في رثاء أحد كتّاب بلد عربي عُرف بلدُه بثراء كتابه ومفكريه ومبدعيه المحترمين، محلياً وعربياً ودولياً. صُدمت لأن الراثي عدّ المرثي «آخر الرجال المحترمين»، ثم وجدت له العذر في أنه استعار الصفة المُطْلقة، من رابطة نساء نعى بيان لها الكاتبَ المُتوفى بالكلمات ذاتها، وهذا أسوأ، إذ أقل ما يقال فيها هو أنها أساءت للراحل ذاته، ثم شملت بالإساءة رجال البلد أجمعين، ونساءه أيضاً. تساءلت حينها: لماذا إسراف المديح حد تشويه الممدوح، حياً أو ميتاً؟
في السياق ذاته، وجدتني أستحضر الفزع الذي عم أرجاء العالم العربي في مثل هذا الشهر قبل سبعة وأربعين عاماً، عندما أسلم جمال عبد الناصر الروح (28/ 9/ 1970) في ختام قمة دعا إليها الرجل على عجل لوقف حرب فلسطينية - أردنية في شوارع عمان. صحيح أن عبد الناصر لم يكن زعيماً عادياً، لكن الأصح أن الموت قدر لا مفر منه. لم أزل أذكر كيف بكيناه كما لو أن العرب لن تقوم قائمة لهم من بعده. خطأ. وسأظل أتذكر كيف نشبت حرب كلامية مع زميل لي صاح بي: أنتم الفلسطينيون قتلتم عبد الناصر. لكن هذا كله هان أمام صدمتي عندما زأر السيد نزار قباني يومذاك بقصيدة: «قتلناك يا آخر الأنبياء»، فلا الرجل زعم نبوّة، ولو بالمعنى السياسي، ولا هو أوصى أن يُعطى صفة «القائد الخالد»، إذ ما جُعل الخلودُ لأي أحد، بما في ذلك الرسل والنبيون، ثم إن الجانب الشخصي من سيرته يقول إن جمال عبد الناصر عاش حياة يومية بسيطة، وتوفي على فراش سريره محاطاً بأسرته.
هل هي مبالغات صادرة عن تعلّق عاطفي أم مستندة إلى تحقق علمي؟ الأرجح أن الشق الأول هو الأصح. إنما ثمة مواضع تبدو تلك المبالغة فيها مقبولة، سواء من حيث التحبب أو الإعجاب أو إبداء الرأي المستند إلى توثيق. يصح هذا خصوصاً في مجالات الإبداع الإنساني، حين يذاع نبأ رحيل مبدع قدير في ميدانه، كما قيل في الأميركي جون ناش، عبقري علم الحساب، حامل جائزة نوبل، الذي وضع عنه فيلم جميل بعنوان «عقل جميل». وكما سوف يقال في وصف العالم البريطاني ستيفن هوكنغ، آخر فيزيائيي زمنه المبدعين من مقعد مُقعدين. وكما قيل من قبل في سير لورانس أوليفييه، آخر عمالقة زمانه في المسرح البريطاني، أو نظيره يوسف وهبي على خشبة مسارح مصر، وكذلك شوشو اللبناني، آخر من فلسف فن كوميديا الانفرادي خلال أيامه، فأضحك وأبكى، أو صالح سليم، آخر مايسترو عصره بملاعب كرة القدم. تلك أمثلة على مبالغات لطيفة ومفهومة، بل مُبررة. أما غيرها، خصوصاً في سياق تمجيد حكام وسياسيين، فلا لطف فيها، ولا فهم لها، ولا منطق يبررها.