حدود العلم وحدود الحكم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
توفيق السيف
أوائل العقد الماضي أثار الدكتور حمزة المزيني جدلاً واسعاً، بعدما نشر سلسلة من المقالات تدعو لاعتماد الحساب الفلكي والطرق العلمية في إثبات هلال رمضان، بدل التعويل على الرؤية بالعين المجردة. لم يكن المزيني، وهو أكاديمي متمرّس، أول الداعين لهذا. لكن مجادلته المتينة للاستدلال التقليدي، جعلت الموضوع مورداً للنقاش العام. نعرف مدى تأثير ذلك النقاش من واقع أن مئات الناس باتوا يتساءلون، لا سيما قبيل رمضان: هل من الصحيح لنا بصفتنا مسلمين، أن نقف في الطرف المنكر للعلم الحديث ومستخلصاته؟
الجدل حول إثبات الهلال واحد من تمظهرات كثيرة لقضية أعمق، تتعلق بالمسافة الفاصلة بين الفهم المتوارث للنص الديني، وبين الواقع الجديد في العالم. جوهر هذه القضية أن لدينا نصوصاً أو تفسيرات لنصوص، تصف وقائع أو إدراكات معروفة في زمنها. لكن إنسان اليوم يفهم تلك الإدراكات والوقائع بطريقة مغايرة للوصف القديم.
في سنوات سابقة كان يقال إن مستخلصات العلم نظريات بشرية، قد تصحّ، وقد يظهر خطؤها بعد حين. ولذا فليس من الحكمة اتباعها وترك ما ورد في النص. لكن البشر المعاصرين يرون الأدلة على صواب تلك النظريات في تجارب تتكرر يومياً للمئات من الطائرات والسفن والأقمار الصناعية وسفن الفضاء، التي تتبع حسابات مبنية على تلك النظريات، فتصل دائماً إلى وجهاتها، بعد ساعات أو أيام أو أشهر أو حتى سنوات. في مطلع الشهر الحالي مثلاً سمعنا عن المسبار الفضائي «فوياجر» الذي أطلق في 1977 متجهاً إلى حافة المجموعة الشمسية، واستمر في إرسال المعلومات عن مساره المحدد سلفاً، بعدما قطع نحو 12 مليار ميل، طيلة 30 عاماً من الطيران في عمق الفضاء الكوني. إن الحسابات العلمية التي يسّرت ضبط هذا المسار المقارب للخيال في بعده، مستمدة من النظريات ذاتها التي قيل إنها قابلة للخطأ.
المؤكد أن مسلمين كثيرين سوف يسألون أنفسهم: كيف نثق بحسابات توصل مئات الطائرات والسفن إلى وجهاتها على بعد آلاف الأميال، ولا نثق بالحسابات نفسها حين تخبرنا عن وقت ولادة القمر أو ارتفاعه في الأفق؟
لو دققنا في باطن هذا السؤال لوجدنا وراءه سؤالاً أكثر جذرية، يتعلق بتعريف مهمة الدين: هل هي وصف الواقع أم تحديد قيمته والحكم عليه؟ في القرن الثاني عشر الميلادي قال أبو الفتح الشهرستاني إن الاجتهاد ضروري، لأن النص الديني محدّد والوقائع التي يغطيها غير محدّدة. وثمة ميل قوي بين الفقهاء للفصل بين الحكم الشرعي وموضوعه، والرجوع في تشخيص موضوعات الأحكام إلى العرف أو أهل الخبرة. والحق أن هذا دور العلم في حقوله المختلفة. فيما يخص الهلال مثلاً، فإن الشرع يأمرنا بصوم رمضان، أما تحديد بداية الشهر ونهايته فهو مهمة العلم. وكذا الحال في غالب الأحكام.
يقال في العادة إن الفقهاء لا ينكرون أحكام العلم الحديث، ما لم تعارض نصاً أو تفسيراً مألوفا للنص. وهذا قول صحيح في الجملة. لكنه تسوية جزئية فحسب.
جوهر المشكلة يظهر عند التعارض، وهو كثير جداً. وأظن أنه لا يمكن لنا الإمساك بالعصا من طرفيها. الحل الحقيقي هو الإقرار بقيمة العلم الحديث، وأن له دوراً محورياً في تشخيص موضوعات الحكم الشرعي. هذا يعني بالضرورة الإقرار بأن علم المعاصرين مقدم على علم الأولين، والإقرار بمجال عمل واضح للعلم، ومجال آخر للحكم، دون خلط بينهما.