رأى فيها «الجاهلية»
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سمير عطا الله
بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين سافر مئات المفكرين والكتّاب إلى الولايات المتحدة. لكن بعض هؤلاء وضع مؤلفات انطباعية كانت أشهر من سواها. كتاب «ماذا شاهدوا في أميركا (مطبوعات جامعة كمبريدج) انتقى الأربعة الأكثر شهرة: الفرنسي ألكسيس دو توكفيل، الأكثر مرجعية بينهم. والألماني ماكس ويبر. والبريطاني جي. كي. تشسترتون، والمصري سيد قطب».
ركب سيد قطب باخرة مبحرة من الإسكندرية إلى نيويورك في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 1948، في أول رحلة له خارج مصر، في الثانية والأربعين من العمر. كان قطب موظفاً في وزارة المعارف المصرية، وفي الوقت نفسه مطلوباً للحكومة بموجب مذكرة توقيف. وكان الحل الأفضل للفريقين أن يُرسل إلى الولايات المتحدة مكلفاً «دراسة نظام التعليم الأميركي ووسائله ومناهجه».
كانت كتابات قطب قد بدت تزعج الدولة، بعدما تحول من كاتب وشاعر وناقد وأكاديمي نخبوي معاصر، إلى ناشط متطرف ضد النظام وضد الأثر الفكري الغربي. واعتقد رئيس الوزراء محمود النقراشي باشا أن جولة مطولة في أميركا سوف تغير من مواقفه. لكن الزيارة التي استمرت عامين، أدت إلى العكس تماماً. بعد سنوات من عودته إلى مصر، انضم عام 1953 إلى حركة الإخوان المسلمين، ودخل في صراع مع حكم جمال عبد الناصر. اعتقل عام 1954 وأمضى تسع سنوات في السجن، ثم أفرج عنه لفترة قصيرة أعدم بعدها عام 1966.
بين المفكرين الأربعة كان سيد قطب وحده من هاجم نهج الحياة في أميركا. وفي حين كتب الآخرون عن التقدم الصناعي المثير، هاجم هو ابتعاد الأميركيين عن الطبيعة والعلاقة بالأرض. وتذكّر قريته موشا وكيف كان الفلاح يشعر بالاستقلال لامتلاكه قطعة صغيرة يقوم على زراعتها والعيش مما ترد عليه. وقد أهدى قطب كتابه الأول «طفل من القرية» إلى عاشق آخر للأرض، طه حسين. لكن عندما دافع عميد الأدب العربي عن الحداثة، انقلب عليه.
وضع ألكسيس دو توكفيل عن خلاصة الرحلة إلى أميركا أحد أشهر الكتب عن الديمقراطية وعن أميركا معاً. لكن سيد قطب رأى في الحريات السياسية والاجتماعية التي تتضمنها الديمقراطية، حياة فاسدة. ويرى مؤرخون وبحاثة غربيون، مثل الفرنسي جيل كيبل، أن أفكار قطب هي التي أدت إلى ضرب برج التجارة العالمي وموجة التشدد الحالية.
بدل «الديمقراطية» التي رآها دو توكفيل في أميركا، رأى قطب «الجاهلية» هناك. والرجل الذي بدأ حياته تلميذاً لعباس محمود العقاد، وعضواً في «الوفد»، تحول شيئاً فشيئاً إلى تلميذ نفسه، يريد أن يجعل من قريته موشا، نموذجاً لوطن كوني.