ما وراء الاحتجاجات الإيرانية الأخيرة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أمير طاهري
تمر إيران، منذ أكثر من أسبوع الآن، بحالة من الاضطرابات الداخلية إثر الحشود العارمة من مختلف الأحجام التي تنظم المسيرات الاحتجاجية في أكثر من 30 مدينة إيرانية لم تُستثنَ منها العاصمة طهران. وبفضل المشاهد التي لم تُشاهد في هذا البلد منذ عام 2009 عندما تمكن النظام الحاكم من إخماد الانتفاضة الشعبية في طهران، ثارت كثير من التساؤلات حول ما يُشار إليه مؤخراً، وعلى نحو مجازي، بـ«الأحداث».
والسؤال الأول المطروح هو: من هم المتظاهرون؟
كما جرت العادة، يحلل النظام الإيراني الاحتجاجات بأنها نتيجة لمؤامرات من قبل الولايات المتحدة التي، مع مغادرة الرئيس باراك أوباما الذي سعى إلى نوع من التوافق مع القيادة الحالية في طهران، قد أصبحت - تحت إدارة الرئيس دونالد ترمب - عاقدة العزم على تغيير النظام الحاكم في البلاد.
والتحليل الحكومي الإيراني يتسم بكثير من الصبيانية حتى يستحق مناقشته بصورة جدية ومفصلة. ويكفي القول إنه في حين أن إدارة الرئيس ترمب تفضل بالفعل تغيير النظام الحاكم في إيران إلا أنها، وحتى الآن على أقل تقدير، لم تفعل أي شيء على الإطلاق للتحرك على هذا المسار. وعلى أية حال، إن كان تغيير الأنظمة الحاكمة بهذه السهولة لكانت الولايات المتحدة قد نجحت في تنفيذ ذلك مع كوبا وكوريا الشمالية منذ فترة طويلة.
ويمكن للولايات المتحدة، عبر سياقات مختلفة، إضافة إلى القوى الكبرى الأخرى، المساعدة في إطالة حياة أي نظام حاكم من خلال منحه الشرعية التي لا يستحقها وإمداده بالمساعدات الاقتصادية والسياسية التي يحتاجها للبقاء على قيد الحياة.
وهذا بالضبط ما صنعته إدارة نيكسون - فورد الأميركية تجاه الاتحاد السوفياتي في سبعينات القرن الماضي.
وهذا أيضاً ما صنعته إدارة أوباما للجمهورية الإسلامية بين عامي 2009 و2017، ولا يزال الاتحاد الأوروبي يتابع تنفيذ هذه السياسة حتى الآن.
ومع ذلك، وبعيداً عن الغزو العسكري الكامل، لا يمكن لأية قوة خارجية، مهما كانت عظمتها وسلطتها، أن تنجح في إسقاط نظام حاكم يحظى بقدر ولو يسير من الدعم المحلي وما يكفي من الثقة الذاتية التي تؤهله لمواجهة التحديات والصعاب.
ومما لا شك فيه، تندفع القوى الكبرى بين الحين والآخر صوب مستنقع مؤامرات تغيير الأنظمة الحاكمة، ولكن غالباً ما ينتهي الأمر بها إلى المراهنة على الجياد التي يمكن أن تتحول إلى الركض بأسرع ما تستطيع.
إن تغيير النظام الحاكم هو عمل الشعب المعني بالأحداث الداخلية في بلاده، ولا يمكن للقوى الخارجية سوى المساعدة من خلال عدم دعم الظالمين.
ولكن إن لم تكن الأحداث الإيرانية الأخيرة «مؤامرة أميركية»، فمن يحتج ويتظاهر الآن في إيران؟ والإجابة المباشرة هي: إنه الشعب غير الراضي عن طغمته الحاكمة.
وبقدر ما تمكنت من متابعة الاحتجاجات الجارية في إيران فإنها تجري تقريباً في كل المحافظات الإيرانية ويتصدرها الشباب المتعلمون والرجال والنساء من أبناء الطبقة المتوسطة الذين يرغبون في الإعراب عن مظالمهم المشروعة ضد النظام الحاكم الذي أثبت فشله داخلياً على كل الأصعدة والمجالات.
وبعض من هذه المظالم ذات طبيعة اقتصادية؛ إذ إن البطالة الجماعية من القضايا الكبرى في إيران مع نسبة 25 في المائة من خريجي الجامعات عاجزون عن العثور على عمل لمدة بلغت 4 سنوات بعد التخرج. وتقول الإحصاءات الرسمية إن معدلات البطالة تقترب من 12 في المائة، وعندما يتعلق الأمر بالمناطق الحضرية الكبرى فإن المعدلات ترتفع عن ذلك بكثير.
ثم هناك مشكلة التضخم، الذي بلغت نسبته 13 في المائة على أساس سنوي، ويسبب التآكل الشديد في الدخول الضئيلة للأسر المتوسطة في البلاد.
ومما يزيد الأمور سوءاً انتشار الفساد والاختلاس على نطاق كبير وواسع.
وفي عام 2017 وحده، انهارت خمسة مصارف وصناديق استثمارية، مما عصف بمدخرات ما لا يقل عن 2.5 مليون أسرة من الطبقة المتوسطة والطبقة دون المتوسطة. وحيث إن المؤسسات المنهارة كان يسيطر عليها الملالي البارزون أو كبار جنرالات الحرس الثوري، فإن فشل هذه المؤسسات يعتبر فشلاً للنظام الحاكم ذاته. وأدى انهيار صناديق المعاشات، بما في ذلك معاشات المعلمين، إلى تفاقم آثار فضائح الفساد. ومن المثير للاهتمام، أنه لم يتم اعتقال أحد على خلفية أي من حالات الفشل المعلنة تلك، إذ يعتقد أن المسؤولين عنها قد سمح لهم بالفرار إلى المنفى الاختياري في كندا.
ومع ذلك، أظهرت الاحتجاجات أنه يستحيل الفصل بين القضايا الاقتصادية المحضة والسياسية المحضة في البلاد. وفي الواقع، فإن كل القضايا في أي مجتمع تحمل السمة السياسية في خاتمة المطاف بسبب أن السياسات تؤثر على مناحي الحياة كافة.
على سبيل المثال، يستند إعفاء كثير من المصارف وصناديق المعاشات الإيرانية من قواعد الشفافية والمساءلة القانونية بحجة أنها تخضع لسيطرة كبار الملالي أو جنرالات الحرس الثوري، إلى قرار سياسي في المقام الأول. وحقيقة أن يتخرج في إيران مئات الآلاف من الرجال والنساء الحاصلين على الدرجات الجامعية من دون مهارات حقيقية تفيدهم في سوق العمل هو ثمرة قرار سياسي بكل تأكيد.
كما كشفت الاحتجاجات أيضاً عن إدراك كبير لدى المواطنين العاديين للتكاليف الهائلة للسياسة الخارجية الإيرانية المضللة التي حولت إيران إلى شريك في الجرائم التي يرتكبها الطغاة في سوريا والإرهابيون في لبنان واليمن. فليست هناك مصلحة مباشرة لإيران في دعمها لبشار الأسد وذبحه للشعب السوري أو لتأييد حسن نصر الله الذي يقوم بدور المملوك المطيع في بيروت.
ومن بين الشعارات المتكررة في كل الاحتجاجات الإيرانية كانت الدعوة إلى الإفراج الفوري عن كل السجناء السياسيين في البلاد. وحقيقة أن الجمهورية الإسلامية ظلت طيلة أربعين عاماً تحتل المرتبة الأولى عالمياً في عدد السجناء السياسيين والمرتبة الثانية عالمياً بعد الصين من حيث حالات الإعدام، هو أمر يرجع بالأساس إلى القرارات السياسية وليست اقتصادية.
هل تسير إيران على طريق تغيير النظام؟
توصلت، قبل أكثر من عشر سنوات، إلى استنتاج مفاده أن تغيير النظام هو الوسيلة الوحيدة التي يمكنها إنقاذ إيران من المأزق التاريخي الذي خلقه هناك الخميني وزمرته. ولقد توصلت إلى هذا الاستنتاج، والذي بسطت القول بشأنه في كتابي بعنوان «الليلة الفارسية»، وهو لا يتعلق بحبي للنظام الخميني من عدمه، وأنا فعلاً لا أحب هذا النظام. ولا يتعلق الأمر أيضاً بفكرة أن النظام الخميني هو أسوأ حالاً من حلفائه في كوريا الشمالية أو فنزويلا أو زيمبابوي، بل إن طرحي للمسألة يستند إلى اعتقاد مفاده أن النظام الخميني، سواء كان جيداً أو سيئاً، قد عفّى عليه الزمن ولم يعد يعمل بكل بساطة. وهو نفس الاستنتاج الذي توصل إليه الكثيرون ممن يعملون داخل النظام نفسه.
وحتى وقت قريب، اعتقدت حفنة ممن هم داخل النظام أو يعملون في دوائر قريبة منه أنه يمكن تفادي مواجهة تغيير النظام الحاكم بإجراء تغيير داخلي في النظام نفسه. غير أن أعواماً طويلة من التجارب حول هذا المفهوم تحت قيادة محمد خاتمي ومؤخراً حسن روحاني، قد أثبتت افتقار نظام الخميني لأية آلية فاعلة للإصلاح والتغيير من الداخل. وبالنسبة لإيران، فإن تغيير النظام الحاكم هو الخيار الأكثر حكمة، والأكثر تعقلاً، والأقل تكلفة. وهذا لا يعني بالضرورة أنني أتنبأ بتغيير النظام الحاكم في طهران من الآن وحتى بداية السنة الفارسية الجديدة في مارس (آذار) المقبل. بل إن كل ما أقوله هو إذا ما أراد الشعب الإيراني لبلاده أن تتخلى عن صفوف الخاسرين والأمم المضطهدة فإنهم في حاجة إلى نظام جديد وأفضل من اختيارهم. أما بالنسبة للقوى الأجنبية الحالمة بالتوافق مع إيران، فأقول: عليكم التخلي عن تلك الأوهام. فإن النظام الذي يعاني من مشكلات مع شعبه فإنه يعاني ولا بد من مشكلات مع البلدان الأخرى.
وبعد مرور أربعين سنة من استيلاء الملالي على الحكم، لا بد لإيران أن تتوقف عن العمل كمطية للثورة المفلسة وتعاود اكتشاف الذات كدولة قومية تتصرف تصرف الدول العادية.
وهذا الأمر يستلزم تغيير النظام.