الهندسة الاجتماعية الجديدة في الخليج
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
محمد الرميحي
هناك خطوات حثيثة تتخذ لهندسة اجتماعية جديدة في الخليج، مشروع تشترك فيه كل دول مجلس التعاون تقريباً بدرجات متفاوتة، يهدف إلى تحويل الاقتصاد ومعه المجتمع من ريعي إلى مجتمع منتج، دون نسيان رعاية من يستحق في المدى القصير والمتوسط.
من مظاهر الهندسة الجديدة والخطوات الأولى رفع الدعم التدريجي عن أسعار السلع والخدمات المقدمة للمقيمين والمواطنين من جهة، مع فرض ضريبة القيمة المضافة، مع ضخ بعض المال في جيوب المواطنين من جهة أخرى، من أجل تخفيف أعباء المشروع المباشرة في المدى القصير على أصحاب الدخل المحدود، قلت ذلك هو المظهر، أما الهدف الأكبر في المدى المتوسط والبعيد، هو إعادة هيكلة الاقتصاد وبالتالي المجتمع من أجل تهيئته للظروف المستجدة، وتحميل الجميع أعباء الاقتصاد الجديد، والمساهمة فيه أيضاً. الافتراض الذي يفهمه المتابعون والنشطاء أن تلك السياسة جزئية، وليست كلية أي (سياسة رفع أسعار السلع والخدمات)، بمعنى أن هندسة المجتمع مثلها تقريباً مثل الهندسة الكيماوية، شمولية الطابع في تفاعلاتها، وليست أحادية الجانب، خذ مثلاً تركيب الأدوية، فكل دواء يحتوي على عناصر متعددة ومعروفة تدخل في تركيبته، وإن زاد عنصر منها على العناصر الأخرى، فسد الدواء، بل أصبح مضراً للناس. وهذا ينطبق على المجتمع، فهو مكون من مجموعة من العناصر (الاجتماعية/ السياسية/ الاقتصادية/ الثقافية) يتفاعل بعضها مع بعض، وإنْ أصيب أحد تلك العناصر بالخلل تعثر المجتمع واضطرب. والسؤال هنا، هل ثقافة المجتمع الخليجي في الاستهلاك، ثقافة ثابتة لا يمكن تغييرها؟ وهل الاستهلاك المشاهد، وبعضه بذخي مسرف، هو (طبيعة ثانية للمجتمع الخليجي المعاصر) أم أنه مستجد؟ ثقافة خلقها النفط الذي لم يتعدَ نصف قرن من الزمان، وبالتالي العودة إلى ثقافة الاقتصاد ونبذ التبذير ممكنة؟ الأمر ليس له علاقة بالوعظ، فتلك أداة لم يعد قطاع واسع من المجتمع الخليجي يهضمها، بسبب التعليم والوعي، ولأنها تخاطب العاطفة لا العقل، الأداة الأفضل هي التفكير في حزمة من الأفعال تعيد ثقافة التدبير إلى المجتمع، وهي ذات سلسلة طويلة من الخطوات، تبدأ بضرب المثل، ولا تنتهي بالقانون والإعلام. ضرب المثل يسعفنا فيه ما يتناقله الكويتيون عن أحداث النصف الأول من ثلاثينات القرن الماضي. عندما شح الدخل من صناعة الغوص وتضاءل، قرر الشيح المرحوم أحمد الجابر أن يلغي لبس (البشت) أو (المشلح) أو (العباءة) الرجالية وبدأ بنفسه، لأن ثمنها يكلف نسبياً الرجل العادي، وهي ظاهرة اجتماعية وليست ضرورة حياتية، أراد أن يضرب مثلاً سرعان ما جاراه بترحاب رجال البلد، فخفف عليهم مصاريف زائدة! اليوم غير الأمس، فـ(الأمثولة المطلوبة) تتعدى (العباءة) لتصل إلى أسلوب الحياة والعيش، وأن يرى الناس المسؤولين وهم في تواضع من العيش حقيقي. ذلك خط الأمثولة، أما خط القانون، فمثله ما نشاهد في الأحياء في المدن الخليجية، إن سِرت في شوارعها سوف ترى هدر المياه، وكأن البلاد تعيش على ضفاف نهر، فالعمال في المنازل يغسلون سيارات السكان بمياه من المفروض أنها تأتي من مصدر شحيح. العام قبل الماضي في الندوة السنوية لمنتدى التنمية في الخليج، تدارس المجتمعون احتمال نضوب المياه في الدولة الخليجية، واستقر رأي المتخصصين على أن ذلك الاحتمال ممكن، وصدر عن ذلك الاجتماع كتاب موجود على الشبكة بعنوان «حتى لا يعطش الخليج»! ينذر إنذاراً لا لبس فيه وبالأرقام احتمال شح المياه إن لم تتخذ خطوات جادة في ترشيد الاستهلاك، وهنا لن تفعل الأمثولة فيه شيئاً، بقدر ما يفعل القانون! قل على استهلاك الكهرباء ما تقوله على استهلاك الماء! على جانب آخر من مشروع الهندسة الجديدة ما يعرف الآن بـ(تعديل التركيبة السكانية) أي الإقلال ما أمكن من العمالة الوافدة، والأرقام الخام هنا ليست مفزعة ولكن مخيفة، أي أن نسبة السكان المحليين في المجمل قليلة، إن قورنت بالمجمل العام، وتعديل التركيبة السكانية شعار غير مدروس بعمق، حيث الغوص في الأرقام يظهر لنا الأمر أنه يحتاج إلى تفكير، وتنقسم العمالة الوافدة إلى شرائح متعددة، منها عمالة المنازل، التي هي ليست أكبر الشرائح، ولكن التقليل منها يحتاج إلى توعية، وأيضاً إلى قرار لا يخضع للآني من الطلبات، إلا أن الأمر ليس بتلك البساطة. وإذا أخذنا مثالاً من الخليج حول مطالب تعديل التركيبة السكانية، فسوف نجد مثلاً في الكويت أن العمالة الوافدة (أرقام 2015 المتوفرة) تتكون من الآتي، أربعة في المائة فقط تعمل في الحكومة، 25 في المائة العمالة المنزلية، أما الباقي (71 في المائة أي الأغلبية) فهو الذي يعمل في القطاع الخاص، وتلك النسبة متقاربة في دول الخليج! والاستغناء عن كل أو بعض تلك العمالة يعني ارتدادات اقتصادية سلبية كبيرة، منها أن السلع والخدمات سوف ترتفع أثمانها (هذا إذا افترضنا القدرة العملية على تخفيض كبير للعمالة)، كما أن الخدمات نفسها سوف تتدنى، لأن اليد العاملة المحلية، لم تبلغ حداً من التدريب في سوق العمل التي تشغلها العمالة غير المحلية. من جانب آخر، فإن العمال يسكنون في شقق في عمارات يتملكها المواطنون، وعند التقليل من تلك العمالة فسوف يتضاءل ملاك العقار، في الوقت نفسه فإن ثقافة المواطن لم تؤهل حتى اليوم للسكن في تلك العمارات والشقق، وحتى لو أغري المواطن بذلك، فإن هندسة تلك العمارات والشقق يجب أن تتغير لتلاقي متطلبات المواطن في المساحة والخصوصية وغيرها مما له علاقة بثقافته! وقد تواجه الدولة ضغوطاً من نوع ما من تلك الفئة التجارية صاحبة النفوذ. وعلى الرغم من أن عملية الإصلاح قد لامست وضع المرأة في الخليج، وذلك أمر محمود، فإن حساب ذلك على الديموغرافيا لا بد من الإشارة إليه، فدخول المرأة إلى العمل على المدى المتوسط، قد أثر حسب الإحصائيات المتوفرة، في كل من الكويت والإمارات، على حجم الأسرة التي كانت حتى ثلاثة عقود مضت في المتوسط بين ستة وسبعة أطفال، تقلص ذلك العدد إلى متوسط ثلاثة فقط! مما يعني أن خروج المرأة إلى العمل أفرز نتيجة سلبية أخرى، هي الاحتياج إلى العمالة الوافدة!
تفكير متخذ القرار الأهم هو ما طبيعة الاقتصاد الجديد والمرغوب؟ ينصرف الذهن مباشرة إلى (اقتصاد المعرفة) وهو السائد اليوم، ذلك يحتاج إلى تفكير جذري في التعليم نوعاً وكيفاً بشكل مختلف عما هو سائد اليوم (لتعليم ينتج موظفين)، وكذلك تطوير المنظومة المؤسسية في الإدارة، للسماح لذلك النوع من الاقتصاد بالنمو.
وهكذا، فإن تداعيات الإصلاح الاقتصادي يأخذنا إلى حزمة من عمليات الهندسة الاجتماعية متداخلة وتؤثر بعضها في بعضها الآخر، كما تجبرنا إلى النظر إلى المجتمع في كلياته، أي الملفات الأربعة الرئيسية وهي الاجتماعية والاقتصادية وأيضاً السياسية والثقافية. فمن المتوقع أن تواجه مجتمعات الخليج نتيجة لتلك الإصلاحات مطالب جديدة أخرى، يجب أن نعد العدة لوضع الحلول المبكرة لها، قبل أن تفاجئنا تداعيات الإصلاح غير المحسوبة.
آخر الكلام: إحدى معضلات التنمية التي تبنتها الدولة الريعية في الخليج، هي ربط الشهادة بالوظيفة، وقد أصبحت الشهادة محل شكوك! فهل تتغير العلاقة؟