جريدة الجرائد

الآثار التاريخية المنسية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

 أريج المحيا       

التاريخ ليس فقط حفظا لوقائع وأحداث كانت في الماضي وانتهت، التاريخ وسيلة تساعدك ألا تعيد أخطاء أجدادك، فما نحن عليه الآن هو امتداد للماضي، والتعلم منه سيرسم خط المستقبل

قبل بضعة أيام نُشرت نتائج التحليل الجينومي (DNA) للطفلة ذات الستة أسابيع التي وُجد رفاتها في ألاسكا عام 2013، بنتائج التحليل الكربوني قُدر عمر هذه العظام بـ11500 سنة. موضوع إيجاد رفات بشرية من العصور الحجرية ليست بقصة جديدة علينا، لكن الجديد هنا أن تحليل DNA من قطعة صغيرة من عظام الطفلة كان كفيلا بإثبات أهم نظريتين كان مشكك فيهما لقلة الأدلة، وهي علم أنساب القبائل الأصلية لأميركا وتوزيعها، وعلم تطوير الأرض.
التحليل أولا رسم شجرة نسب الطفلة مع إيجاد أصولها قبل الهجرة وخط سير هجرة قبيلتها لأميركا. بمقارنة ذلك بالسكان الأصليين لأميركا، أثبت أن قبيلة الطفلة من أوائل القبائل المهاجرة إلى أميركا ويعتبر تحليلها مرجعا. التحليل ثانيا رسم التركيب التصوري لجيولوجيا الأرض قبل آلاف السنين. فالجسر الجليدي الذي تُصور أنه كان يربط سيبيريا بألاسكا أثبت أنه كان موجودا فعلا في العصر الجليدي لأنه كان خط سير هجرة قبيلة الطفلة.
التنقيب عن الأثر البشري والحضاري ساعد في فك الألغاز التاريخية. جزيرة العرب منطقة جذابة للتنقيب الأثري، حيث متوقع أنها تحتوي على مخزون هائل من الآثار التاريخية التي لم يتم اكتشافها إلى الآن، لأنها كانت بقعة استوطنت فيها أمم منذ آلاف السنين، خصوصا بعد هجرات الإنسان من إفريقيا إلى آسيا.
منذ إنشاء الهيئة العامة للسياحة والآثار في السعودية، لاحظنا اهتماما كبيرا بالآثار التاريخية، سواء كان من إقامة المتاحف تقريبا في كل منطقة، أو استعمال وسائل التواصل الاجتماعي والبرامج التلفزيونية، أو الرسائل النصية للدعاية والتثقيف المجتمعي لأهمية إرثنا التاريخي. وهي خطوة إيجابية وفي طريق التطور للأفضل. 
لكن من ملاحظتي أن هذه الوسائل سلطت الضوء بشكل كبير جدا على مدائن صالح في العلا فقط، وذلك يجعل الأماكن التاريخية الأخرى في المملكة مُغيبة عن الساحة أو مهملة من مزيد من التنقيب. خلال زيارتي لفرع الهيئة في الجنادرية لم ألق أي ذكر مثلا عن ازدهار المملكة الحميرية في منطقة نجران بالتحديد، وعند سؤالي عن سبب غياب ذكرها تبين لي أن العاملين في الفرع لا يوجد لديهم أي فكرة عن آثار هذه المملكة. 
نجران كانت قديما مركزا تجاريا واستراحة للقوافل، مما ساعد بسهولة في بناء حضارات فيها. فمع اعتناق سكانها المسيحية الموحدة قبل الإسلام بُنيت صوامع العبادة والكنائس، وازدهرت المدينة بازدياد العدد السكاني حتى أصبح لها جيش فأصبحت دولة بداخل دولة. هذه المواقع الأثرية تحتاج نصيبا من الاهتمام والدعاية كنصيب مدائن صالح. ترميم بقايا الأبنية من كنائس ودور العبادة التي كانت منتشرة قبل الإسلام ليس لسبب ديني، بل لتظهر تاريخ وحضارة المنطقة في ذلك العصر.
من المؤسف أن ما لا يعلمه الكثير، خصوصا سكان خارج منطقة الجنوب، أن بقايا محرقة أصحاب الأخدود التي نفذها الملك ذو نواس في نصارى نجران والمذكورة في القرآن، ما زالت موجودة. كيف لوقع تاريخي وديني بهذه الأهمية أن يغيب عن الإعلام والاهتمام؟ مع طموح المملكة لإنعاش السياحة التاريخية، فإن الصبر والشغف عاملان مهمان لاكتشاف المزيد من الآثار.
شغف عالم الآثار الإنجليزي آرثر إيفانز (Arthur Evans)، جعله يسافر إلى جزيرة كريت في اليونان والتنقيب عن إثبات للأساطير الإغريقية على نفقته الخاصة. إيفانز لقى نصيبه من السخرية والنقد بأن ذلك مضيعة للوقت وهدر للمال بالبحث عن أسطورة بلوتارخ، لكن النتيجة كانت مذهلة. بعد أشهر من التنقيب، إيفانز اكتشف قصر كنوسوس (Knossos)، وهو قصر الملك مينوس حاكم إغريقي في العصر البرونزي. إيفانز لم يتكشف قصرا فقط، بل اكتشف حضارة كاملة كانت مدفونة تحت الأرض، وهي الحضارة المينوسية. حضارة بكتابات مثقفيها ولوحات فنانيها ونمط معيشة شعبها آنذاك. 
بعد الاكتشاف أصبحت كريت المقصد الأول للسياح من أقطار الأرض، خصوصا لعشاق الأساطير الإغريقية. ليروا على أرض الواقع روايات الفيلسوف بلوتارخ التي تحكي عن بطولة الملك ثيسيوس وانتصاره على الثور الممسوخ (المينوتور). 
إشباع شغف إيفانز أنعش الاقتصاد اليوناني. فنسبة السياحة إلى كريت فقط لمشاهدة المواقع الأثرية أكثر من 50% لعام 2016، بحسب إحصائية أجرتها جامعة كريت بالتعاون مع المرصد السياحي لكريت الغربية والمعهد الزراعي في البحر الأبيض في خانيا. فالسياحة في الجزيرة سجلت أيضا ارتفاعا بنسبة 10.3% لعام 2016 مقارنة بالأعوام السابقة، والنسبة في تزايد خلال الأعوام القادمة. أظن أن نجران في الوقت الحالي تحتاج إلى إيفانز سعودي أو سعودية، ليس فقط بترميم وترجمة ما على ظهرها من حضارات، بل أيضا بإظهار ما يختزنه باطنها.
التنقيب ودراسة الآثار هو جزء من كتابة التاريخ. التاريخ ليس فقط حفظا لوقائع وأحداث كانت في الماضي وانتهت، التاريخ وسيلة تساعدك ألا تعيد أخطاء أجدادك، فما نحن عليه الآن هو امتداد للماضي، والتعلم منه سيرسم خط المستقبل. فالاستغلال الإيجابي لفهم الأمم السابقة كيف عاشت، وما الصعاب التي واجهتهم، وكيف تغلبوا عليها؟ سيصنع قرارات حكيمة في الأوقات الحرجة.

 

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف