القوّة الناعمة للمملكة في ظل رؤية 2030
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يوسف بن أحمد العثيمين
* الاستثمار في الاقتصاد المعرفي من خلال استقطاب علماء مسلمين بارزين
* يمكن أن يكون الوافدون أداة ناعمة داعمة للمملكة حول العالم
* لدينا مخزون من القوة الناعمة لم يستغل بعد
في ظل السعي الحثيث للحكومة السعودية لتطبيق رؤية المملكـة 2030، التي يقود زمامهـا سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ويتابع تجسيدها في شتى المجالات، يبرز مفهوم القوة الناعمة كإحدى الأدوات السياسية والدبلوماسية المهمة في هذا الجهد، خصوصا البعد الدولي، وذلك لما للمملكة من موقع روحي وسياسي واقتصادي مؤثر في هذا العالم المضطرب.. وقد أعددت -منذ عدة سنوات– ورقة في هذا الخصوص لإبراز محورية هذا البعد ومركزيته للسياسة والدبلوماسية السعودية، إلا أنه لم يحظ بالنقاش الكافي، ورأيت أن من المناسب إعادة طرحه مرة أخرى ليكون بداية حقيقية لنقاش مستنير في المنابر المؤثرة على الصعيد الحكومي والأكاديمي والتخطيطي ليساهم في استكمال حلقات رؤية المملكة الطموحة للأعوام القادمة. القوة الناعمة مصطلح سياسي جديد، دخل –مؤخرا– قاموس العلوم السياسية، وشاع استعماله في العلاقات الدولية، وذاع صيته في الأدبيات السياسية، خصوصا في مجال السياسية الخارجية للدول، بل وانتشر الاهتمام العملي في تطبيقاته بين مختلف دوائر صناعة القرار، لا سيما في الدول المتقدمة، التي اعتبرته ذراعا فعالة وأداة مؤثرة في إدارة سياستها الخارجية، وعند تعاملها مع الدول والشعوب الأخرى، لخدمة مصالحها الإستراتيجية طويلة المدى.
ويصف هذا المصطلح قدرة أي دولة، ونظامها السياسي، على التأثير غير المباشر المستمر في سلوك الدول الأخرى وسياساتها ومصالحها، وكذلك التأثير على توجهات نخبها وشعوبها، عبر توظيف جملة من الوسائل: مثل الأدوات الثقافية والدينية والآيديولوجية، وغيرها من الوسائل التي تشكل في مجموعها منظومة مؤثرة بطرق وأساليب ناعمة بعيدا عن وسائل القوة والعنف والضغط والإكراه والإجبار.
وأول من صك هذا المصطلح السياسي هو البروفيسور جوزيف ناي، الأستاذ في جامعة هارفارد، ثم طوره بشكل مفصل في كتاب شهير له، بعنوان القوة الناعمة: وسائل النجاح في عالم السياسة، وطبع سنة 2004، حيث ميز فيه بين التأثير غير المباشر والمستتر للعوامل الثقافية والآيديولوجية والإقناعية والدبلوماسية، وكذلك منظومة القيم والمبادئ والأفكار التي تتبناها الدولة، على سلوك الدول الأخرى وتوجهات شعوبها، وبين وسائل القوة الخشنة التي تشمل القوة العسكرية، والضغوط السياسية، والعقوبات الاقتصادية، التي تمارسها دولة على أخرى، من أجل التأثير عليها لتخدم مصالح الدول الضاغطة. والهدف النهائي من ممارسة القوة الناعمة هو تمكين الدولة من الحصول على ما تريد من الدول والشعوب الأخرى بطرق غير مباشرة، وبالحسنى، أي عبر سياسة الجزرة، وعبر تقديم أساليب جذابة، لاستمالة عقول وقلوب ووجدانيات الشعوب الأخرى ونخبها على المدى البعيد؛ وذلك من أجل إحداث تأثير مستمر على تلك الدول، وتوجهات سياساتها الخارجية، واتجاهات الرأي العام بين مواطنيها، وذلك بغية استفادة الدولة من هذا التأثير لصالحها في مواقف متعددة مثل: حالات الحرب والسلم، وفي أوقات الأزمات، وفي تليين المواقف المعلنة، وفي التصويت لصالح الدولة في المحافل والمنظمات الدولية الكبرى، وفي درء شرور الدولة المستهدفة ونواياها، خصوصا إذا كانت تربطها بها حدود جغرافية مباشرة، بل وحتى التأثير على دول أخرى عبرها، ذوات الصلة المباشرة بتلك الدولة المستهدفة، وأخيرا، إبقاء تلك الدولة المستهدفة في حالة علاقات مستقرة، وشعوبها في حالة تعاطف دائم، حتى عندما يتغير رئيس الدولة أو الحكومة فيها. ويقاس التأثير، الذي ترومه تلك الدول باستخدام قوتها الناعمة، بمقاييس كمية مثل مقياس الرأي العام، وغير كمية مثل المقابلات المعمقة مع النخب الثقافية والسياسية والاقتصادية المؤثرة في تلك الدول، أو عبر الدراسات الفردية (Case Study)، التي تركز على موضوعات محددة.
رأس الوسائل
ويأتي على رأس الوسائل، التي تترجم القوة الناعمة لأية دولة، الأدوات الثقافية والسياسية والاقتصادية، والمؤثرات الآيديولوجية (الأديان)، والوسائل الإعلامية بقنواتها الإذاعية والتلفزيونية، فضلا عن الصحف والمطبوعات والكتب ودور النشر، ومعاهد نشر اللغات، والمنتجات الفنية بمختلف أنواعها وتعبيراتها ومنابرها ومنصاتها، وكذلك موصلات الوشائج الشعبية التي تقوي الصلات بين المجتمعات، خاصة على المستوى الشعبي والمؤسساتي، وخصوصا مع مؤسسات المجتمع المدني في تلك الدول، وغيرها مما سيرد تفصيله لاحقا. إننا، في المملكة العربية السعودية، نتوفر على قوة ناعمة حقيقية وهائلة، ولكننا مع ذلك لم نستثمرها الاستثمار الأمثل، وما استفدنا منه لم نوظفه ونستثمره بالقدر الذي يتناسب مع ما يتوفر في جعبة المملكة من أدوات وعناصر لهذه القوة الناعمة.. ولا أدل على ذلك من ثلاثة أمثلة، على سبيل المثال وليس الحصر. فعندما اضطرت المملكة لدعوة القوات الأجنبية للمساعدة على درء الخطر والتهديد الصدامي ثارت ثائرة الرأي العام في عدد من الدول ضد هذا الإجراء، سواء بين الأوساط الشعبية أو بين النخب، بل وألبت صحفهم –البيضاء والصفراء– الجماهير عليها، مما اضطر المملكة إلى إرسال وفود إعلامية وسياسية لشرح مواقفها، كانت في أحسن أحوالها مشوبة بنبرة اعتذارية وتبريرية ضعيفة، لا أحسب أنها خدمت قضيتنا، أو حتى تقدير موقفنا، وكنا في عين عاصفة سلمنا الله من شرها. ومن الأمثلة الشديدة الوضوح على ضعف استغلال قوتنا الناعمة، أنه بالرغم من أنه تربطنا علاقات إستراتيجية وسياسية وعسكرية واقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ أكثر من 70 عاما، وأكبر شريك تجاري للمملكة منذ نصف قرن، إلا أن العلاقات بين المملكة وأمريكا ما زالت محصورة على المستوى الرسمي، ولم نستغل هذه العلاقة، والنفوذ المترتب عليها، لبناء أواصر وصلات حقيقية على مستوى المؤسسات التشريعية (الكونغرس)، أو المؤسسات الثقافية، والقوى الشعبية والجماهيرية، ومختلف فعاليات المجتمع المدني في الولايات المتحدة، كما تفعل إسرائيل –على سبيل المثال– عبر أقوى جماعة ضغط لوبي عرفته الساحة السياسية الأمريكية، المعروف باسم (إيباك).
ولهذا، فإنه عند حدوث أية هزة، أو أزمة، أو خلاف، أو حتى حادثة فردية، أو سوء فهم إنساني أو ثقافي أو حقوقي أو قضائي أو ديني، نجد أن الدنيا تقوم ولا تقعد تجاه المملكة ومصالحها، مما يعكس إحساسا بهشاشة هذه الصلات. المثال الثالث الذي يمكن أن يساق في هذا السياق، هو موضوع المساعدات المادية، فكم أنفقت المملكة سخيا عبر السنين من ميزانيتها السنوية على الدول الأخرى، علمه من علمه وجهله من جهله، ومع ذلك، لم تؤت هذه المساعدات أكلها بما يتناسب مع حجم ما أنفق، والسبب يعود –بشكل رئيس– إلى أنها –في أغلبها– كانت مساعدات مادية مباشرة، وربما تستقر نسبة منها في جيوب من لا يستحقها، أو تضيع في دهاليز بيروقراطيات تلك الدول التي لم تعرف عنها الكفاءة. بينما دول أخرى –وبمساعدات أقل– جنت مكاسب سياسية هائلة، عندما وجهت مساعداتها عبر مؤسسات مشتركة، وتعاون مشترك، وفي سياق برامج محددة، ومشروعات معروفة كالصحة والتعليم والإسكان والتنمية والبنى التحتية والمرافق، يستفيد منها –مباشرة– مواطنو تلك البلدان المستفيدة من هذه المساعدات والمعونات، كما أنه لا يمكن إخفاؤها عن العيان، بل ستظل شاهدا –دائما– على حجم ما قدم من مساعدات، حتى لو ساءت العلاقات بين الدولتين.
والآن، ما الذي يمكن عمله لتفعيل قوتنا الناعمة؟
كما سلف، فإن لدى المملكة الكثير والكثير من مخزون القوة الناعمة التي لم تستغل بعد، وتنتظر من صانع القرار السعودي إقرار إستراتيجية شاملة لهذا الغرض، ترسم على أعلى المستويات السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية والدينية في بلادنا، لتشكل في مجموعها منظومة سياسات وأهداف ووسائل لتفعيل هذه القوة، واستغلال هذا المخزون الكامن، ليعكس المكانة والقوة الحقيقية للمملكة، في عين الشارع العربي وبين مختلف شرائح الرأي العام في العالم الإسلامي والغربي، وخاصة المؤثرة منها، خدمة للمصالح الحيوية الإستراتيجية السعودية، على المدى المتوسط والبعيد.
أقوى أداة ناعمة في يد المملكة
ففي المجال والفضاء الإسلامي، الذي لا يمكن أن ينافس المملكة أحد عليه، ويعد –في نظر الجميع من محب وعدو– أقوى أداة ناعمة في يد المملكة، كونها حاضنة لقبلة المسلمين، التي يتجه إليها –يوميا– أكثر من مليار ونصف المليار مسلم في صلواتهم خمس مرات، وفيها الحرمان الشريفان، اللذان تنطلق منهما –أسبوعيا– رسالة مرئية–صوتية، يدوي صداها أرجاء العالم، ببث مباشر من مكة والمدينة وهي خطبتا الجمعة، ويحج إليها ويعتمر ملايين المسلمين سنويا، ومنها –أيضا– انطلق الوحي، وفيها نشأت العاصمة الأولى للدولة الإسلامية، وهي مركز قوة الأغلبية السنية في العالم الإسلامي.. ومع كل هذه المقومات والمزايا، إلا أن المملكة لم تستثمر هذه القوة بما يتناسب مع هذه المزايا، وتلك المكانة السامية لها.
لقد ظهر مصطلح الاقتصاد المعرفي –مؤخرا– كأحد الأبعاد للقوة الناعمة للدول، والمملكة لديها فرصة ذهبية لاستثمار هذا البعد، من خلال توفير بنية تحتية معرفية تستقطب من خلالها العلماء المبرزين في العالم الإسلامي، من أطباء ومهندسين ومخترعين وطلاب نجباء. فعلى سبيل المثال جامعة الملك عبدالله للعلوم أحد هذه المنافذ التي يتوق كل عالم أو مبدع إسلامي أن يكون في بيئة إسلامية، ويكون –في نفس الوقت– على صلة مباشرة بأدوات العلم الحديث من جامعات ومكتبات ومختبرات.. ولن يجد العالم المسلم غير المملكة حضنا روحانيا وبيئة جاذبة في نفس الوقت إلا في هذه الجامعة.. وكذا الأمر ينسحب على الطلاب الموهوبين من مختلف أرجاء العالم الإسلامي، الذين سوف يلتحقون بهذه الجامعة الحضارية الوليدة، التي سوف تكون أحد رموز القوة السعودية الناعمة عبر اقتصاد المعرفة جذبا وتأثيرا، يضاف إلى ذلك –أيضا– مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهوبين.
العمل الإسلامي الخارجي
وفي مجال العمل الإسلامي الخارجي، فإنه ينبغي توظيفه كإحدى الركائز الأساسية في السياسة الخارجية للمملكة، ولا ينبغي النظر إلى العمل الإسلامي الخارجي من زاوية محددة، وأفق ضيق كالعمل الدعوي، على أهميته.
فالعمل الإسلامي الخارجي شيء أعظم وأكبر وأوسع بكثير من مجرد العمل الدعوي.. إنه أفق واسع يشمل الكثير من المناشط، والفعاليات والمشاركات، سواء داخل المملكة أو خارجها، ويتطلب نظرة متجددة لتحديث آفاقه وأطره، وتطوير آليات عمله، والفئات المستهدفة منه، وفقا للظروف المتغيرة والمستجدات في العالم الإسلامي، وقضاياه ومشاكله واحتياجاته، وكذلك الأمر في ما يتعلق بالأقليات المسلمة في الدول غير المسلمة.. التي أصبحت قوى مؤثرة في بلدانها ومجتمعاتها، ففي أوروبا وحدها يعيش 25 مليونا، وإذا أضفنا روسيا الاتحادية يصل الرقم إلى 70 مليون مسلم، والمملكة هي أكثر الدول الإسلامية مرشحة لقيادة هذا الدور الريادي الناعم دون منازع، إذا أخذت زمام المبادرة.
المجال الثقافي والإعلامي
وفي المجال الثقافي والإعلامي، فإنهما معين لا ينضب إذا أحسن التخطيط لهما، وتمت إدارتهما بطرق غير تقليدية، وأنفق عليهما بسخاء، يمكنهما من إحداث التأثير المطلوب منهما على شعوب الدول المستهدفة، وعلى المدى المتوسط والبعيد.
ومن أهم الوسائل المحققة لهذا الهدف إطلاق قنوات فضائية موجهة للعالم، يكون منطلقها البرامجي: السعودية في عيون الآخرين، وليس في عيوننا في الداخل، وبإعلام مهني واحترافي هدفه مخاطبة الآخرين، وليس أنفسنا.
وكذلك إنشاء مراكز ثقافية دائمة، ملحقة بالسفارات والممثليات السعودية في الخارج، لتكون حلقة وصل وحوار دائم بين حضارات وثقافات وشعوب دول العالم مع المملكة، خصوصا في الدول التي يهم المملكة أن يكون لها حضور دائم ومؤثر في سياستها وتوجهات شعوبها، وكذا توسيع وظيفة إذاعة القرآن الكريم، لتكون محطة إسلامية ذات برامج دينية ودعوية متنوعة، ويشارك في دوراتها البرامجية أفضل الدعاة والفقهاء وأهل الفتيا التقاة والمعتدلين، من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وتعمل على نشر ثقافة إسلامية عالمية التوجه، تعتمد على مبدأ القسط والوسطية والاعتدال والتسامح والحوار مع الآخر، الذي يعكس الجوهر الحقيقي للإسلام.. ونحن أولى بهذا الجهد من دول أخرى، فالمغرب على سبيل المثال، أطلق قناة تلفزيونية باسم الوسطية، وعمان تصدر مجلة دورية باسم التسامح، والكويت أنشأت مركزا عالميا باسم المركز العالمي للوسطية، وتم الآن في المملكة إنشاء مركز (اعتدال) كإحدى هذه المنصات، ونحتاج للمزيد. ويندرج تحت هذه المنظومة، التي تحتاج إلى مزيد من التوسع والدعم والإنفاق، الجوائز النوعية التي تقدم للمبرزين من أنحاء العالم الإسلامي، والفعاليات الخارجية مثل: معارض الكتب، والأسابيع الثقافية، وبرامج تبادل الزيارات على مستوى الوفود الشبابية والطلابية من مختلف أنحاء العالم، وعلى مستوى المثقفين والأدباء والنخب السياسية، حتى وإن كانوا لا يشاطروننا جميع توجهاتنا السياسية والثقافية. ويرتبط بهذا البعد، أهمية الاهتمام بنشر اللغة العربية وتدريسها، من خلال المنح المجانية سواء داخل المملكة، أو عبر المراكز الثقافية في الخارج. وكذا الأمر بالنسبة للمجال السياحي، الذي بدأت بنيته بالعمل بشكل واسع عبر الهيئة العليا للسياحة، التي لا بد أن تأخذ بالاعتبار تصميم برامج سياحية ذات طابع إسلامي، تكون موجهة لفئات معينة من رعايا العالم الإسلامي، وبرامج أخرى موجهة للعالم الغربي.
دبلوماسيا
وفي المجال الدبلوماسي، فإن نوعية السفراء وحسن اختيارهم، من أهم العوامل التي تحقق للمملكة أهدافها الإستراتيجية عبر قوتها الناعمة.. لقد تغير التعريف التقليدي للسفير، وتغير معه الدور المناط بالسفارة، وعلينا أن نتغير طبقا لذلك. لقد أعيد تعريف وظيفة السفارة، كما تغير دور السفير من كونه يمثل رئيس الدولة في الشؤون السياسية الثنائية المباشرة، عندما كانت وسائل الاتصال محدودة بين رؤساء الدول إلا عبر السفير، إلى سفير يمثل الدولة كجسم بمختلف مصالحها الاقتصادية والثقافية والسياسية، بحيث تتحول السفارة إلى جسر مؤثر لعبور هذه المصالح المتنوعة. ومن هنا، تأتي أهمية الانعتاق من الإسار التقليدي في نشاط السفارات، وفي اختيار السفراء، وضرورة العمل على العناية بانتقائهم من الأجيال الشابة والمتعلمة والمؤهلة، التي تتقن لغات الدول المستهدفة ولغة العصر، وقادرة على تسويق القوة الناعمة السعودية، وفقا لطبيعة البلد المستهدف.. وكذا الأمر بالنسبة لمباني السفارات نفسها، لتكون قلاعا تعكس مكانة المملكة، ومنصات تعبر عن دورها الحيوي في العالم، وتخدم مصالحها الإستراتيجية، وتكون مهيأة للأدوار الجديدة في عالم العولمة والانفتاح والانفجار المعلوماتي.
رصيد سياسي ثمين
وفي المجال السياسي، فإن التوجهات السياسية للقيادة السعودية، القائمة على عدم التدخل في شؤون الآخرين، وتبني سياسة الاعتدال، والوقوف على مسافة واحدة من فرقاء النزاعات الإقليمية والدولية، كل هذا يشكل في مجموعه رصيدا سياسيا ثمينا، يمكن للمملكة استثماره لدعم قوتها الناعمة عربيا وإسلاميا ودوليا، وهذا ما نلمس شواهد منه عند ظهور بعض الأزمات..
كما تكتسب الزيارات الملكية أهمية خاصة في مد الذراع الناعمة السعودية، خصوصا مع الدول التي ترتبط معها المملكة بمصالح وعلاقات إستراتيجية، أو تلك الدول المرشحة لهذا الدور مستقبلا، سواء لأسباب سياسية أو اقتصادية أو دينية، مثل الصين والهند وروسيا واليابان، ودول آسيا الوسطى، وأفريقيا.. ولعلنا نتذكر كم كان لزيارات الملك فيصل لدول أفريقيا من تأثير واسع في خدمة مصالح المملكة في ذلك الوقت، وكذلك زيارات الملك عبدالله للصين وروسيا والفاتيكان، ثم زيارات الملك سلمان لعدد من الدول الإسلامية، إضافة للمؤتمرات الإسلامية الكبرى التي عقدت مؤخرا في المملكة، وشارك فيها أكثر من 50 دولة إسلامية.
وفي دهاليز المنظمات الدولية، فالمملكة بما لها من مكانة اقتصادية مرموقة، فهي عضو مؤثر في جميع المنظمات الدولية الكبيرة، ومع ذلك فإننا من أقل الدول استفادة منها، بالرغم من أن المملكة من أكثر الدول مساهمة مادية فيها، بل ومن أسرعها سدادا لحصصها، ومع كل هذا لا تبذل جهود كبيرة في الضغط عليها لتعيين موظفين سعوديين فيها، يمكنهم –مع مرور الوقت– تسنم مناصب قيادية فيها. وبالتالي، التأثير المباشر وغير المباشر على سياستها، وبما يخدم مصالح المملكة، ويعزز قوتها الناعمة على المدى البعيد. كما أننا لا نستثمر القوة الناعمة السعودية، عندما تكون مقار تلك المنظمات أو المؤسسات المتخصصة الإسلامية لدينا، مثل: منظمة التعاون الإسلامي، والبنك الإسلامي للتنمية.. في حين أن الولايات المتحدة لا تجد غضاضة في ذلك، وترتفع عقيرتها عند إحساسها بأي توجه تتبناه المنظمات الدولية لسياسات تخالف توجهاتها أو مصالحها، بل وتهدد بالانسحاب منها، أو إيقاف مشاركاتها وحصصها في ميزانياتها.. كما يحصل –دائما– في تعاملها المتكرر مع منظمات اليونسكو، والأمم المتحدة، والطاقة الدولية.
الاقتصاد والمساعدات المادية
وفي المجال الاقتصادي والمساعدات المادية، فإن المملكة قد أنعم عليها المولى بقدرات مالية تمكنها من نشر نفوذها الناعم في العالم، باعتبار أن الاقتصاد السعودي يمثل إحدى الرافعات الكبرى للاقتصاد العالمي، ما يتطلب خططا لدعم القوة السعودية الناعمة حول العالم عبر هذا المجال، وذلك بأساليب أكثر ذكاء، تعمل من خلالها على ربط مصالح الدول المستهدفة بمصالح المملكة بشكل دائم، من خلال برامج إنمائية وإغاثية واقتصادية واستثمارية، يحس بها مواطنو تلك الدول، ويشعرون بأثرها المباشر في حياتهم اليومية باستمرار، ومن ذلك –على سبيل المثال– توجيه الاستثمارات والمشاريع الاقتصادية الحيوية إلى الدول الناشئة، التي ترى الدولة فيها هدفا إستراتيجيا يخدم مصالحها على المدى البعيد، بهدف تشبيك المصالح الاقتصادية البينية، التي لا تنفصم عراها عند أقل (هزة) دبلوماسية أو سياسية تمر بين البلدين، وبما يخدم رؤية المملكة 2030 التي يقود دفتها باقتدار سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز.
وفي مجال العمالة الوافدة، فإنها –أيضا– ذراع ينبغي ألا يستهان بقدرتها على بسط القوة الناعمة السعودية، وخصوصا بين الفئات المتعلمة والماهرة من هذه العمالة، فالمعلوم أن 7 ملايين وافد يعيشون بين ظهرانينا، وهناك شريحة معتبرة من هؤلاء تشمل فئات الأطباء والمهندسين والمعلوماتيين والمحامين وأساتذة الجامعات والمدرسين والإعلاميين والمثقفين، وهؤلاء يمكن أن يكونوا أدوات ناعمة داعمة للقوة السعودية حول العالم، إذا أمكن احتواؤهم ضمن برامج ومناشط موجهة لهم، ولأفراد أسرهم المقيمين معهم في المملكة. وفي المجال التعليمي، فإن البعثات للخارج سواء من طلابنا عبر الملحقيات التعليمية الذين أصبحوا –الآن– بالآلاف، أو ممن يمكن أن تقدم لهم منح تعليمية وتدريبية لشباب وقيادات العالم الإسلامي، في المؤسسات التعليمية والدينية والتدريبية السعودية، تمثل قناة فعالة لنشر القوة الناعمة للمملكة حول العالم، وبالتالي نفوذها.
وعليه، ينبغي أن نتوسع في برامج المنح لأبناء العالم الإسلامي والأقليات المسلمة، فهؤلاء سوف يكونون سفراء لنا في بلادهم، فالبعثات التعليمية والمنح الدراسية والتدريبية، أدوات طالما استخدمتها الدول المتقدم لبسط نفوذها الناعم في العالم من خلال طلاب المنح والبعثات، فهؤلاء هم قيادات المستقبل في بلدانهم.
العمل الخيري والإغاثي
وفي مجال العمل الخيري والإغاثي والإنساني والتطوعي، فإن هذه –أيضا– أذرعة تستخدمها جميع الدول لمد نفوذها الناعم عبر القارات، وهناك أعمال تطوعية مؤسسية ناجحة ومؤثرة اضطلع بها المجتمع المدني بدعم مباشر من حكوماتهم مثل: أطباء بلا حدود، ومحامون بلا حدود، ومنظمة (Oxfam)، وقبل عدة عقود (مارس 1961) أطلق الرئيس الأمريكي جون كندي مبادرة مجموعة السلام (Peace Corps)، التي انخرط فيها معظم الشباب الأمريكي، لتقديم خدمات اجتماعية وإنسانية وطبية متنوعة في أنحاء العالم.
ومنذ ذلك التاريخ انخرط في هذه المنظمة التطوعية العالمية 190.000 متطوع، ذهبوا إلى 139 دولة للمشاركة في قضايا إنسانية وصحية واقتصادية واجتماعية وإغاثية، تشمل التوعية بمرض الإيدز، وتقنية المعلومات، والمحافظة على البيئة، والمساعدة على بناء حاضنات الأعمال الصغيرة وغيرها كثير.. وخلف كل هذه المناشط والأعمال التطوعية هدف وحيد معلن وهو: المساعدة على أن تطل الشعوب الأخرى على أمريكا، وأسلوب الحياة الأمريكية، ونشر القيم الأمريكية، وفهم أمريكا، ولا يخفى على لبيب الهدف النهائي لكل هذه الجهود! وهو نشر القوة الناعمة لأمريكا حول العالم بوسائل ناعمة ومغرية ومحببة للشعوب. ولعل إنشاء مركز الملك سلمان للإغاثة خطوة ممتازة في الاتجاه الصحيح، وينتظر منه الكثير حول العالم. ولا ينبغي علينا في المملكة، وكنتيجة لرد فعل أحداث سبتمبر، أن ننكفئ على أنفسنا في الداخل بحجة إيثار السلامة ودفع الحرج، بل على العكس من ذلك، فالأمر –الآن– أصبح أكثر إلحاحا من ذي قبل للانطلاق والتوسع في المجالات الخيرية والإنسانية والتطوعية والإغاثية حول العالم، ولكن عبر عمل مؤسسي منظم ومراقب ومحكم وموثوق بمن يقوم على شأنه، وليس نشاطا فرديا كثير الأخطاء والزلات والإحراج السياسي، كما كان في السابق، عندما ترك الحبل على الغارب. إن قدر المملكة أن تلعب هذه الأدوار الناعمة، بحكم مكانتها وموقعها الخاص في قلب العالم الإسلامي وقلوب المسلمين.. وبدونها سوف يملأ –حتما– هذا الفراغ غيرها من قوى إقليمية أو دولية قد لا تكون محبة للمملكة أو مخالفة لتوجهاتها، وسوف تفقد المملكة –إذا تخلت عن هذه الأدوار الحيوية– ميزة إستراتيجية سوف تحد –قطعا– من نفوذها الناعم في العالم بشكل كبير. إن ما تقدم الإشارة إليه ما هو إلا خطوط عريضة، وليست خطة تفصيلية معمقة لكيفية تفعيل القوة الناعمة السعودية فهذا مشروع جبار وطموح.. إنها مجرد إشارات متواضعة وومضات للتأمل ووقفات على الطريق، من أجل لفت النظر والانتباه إلى أهمية أن تستفيد المملكة أكثر من قوتها الناعمة الهائلة التي تتوفر عليها، وضرورة أن تستثمرها بشكل مؤثر وفاعل، وبأسلوب واع ومخطط مدروس، وضمن إستراتيجية شاملة، موجهة لمحيطها الإقليمي والعربي والإسلامي والدولي الواسع. ولتحقيق هذه الطموحات الإستراتيجية الناعمة، فإن هذا يتطلب –بداية– تشكيل فريق عمل متخصص، من مختلف الجهات الحكومية والأكاديمية والأهلية ورجالات الفكر والأعمال، لدراسة هذه الأفكار وغيرها دراسة معمقة وجادة وهادئة، بهدف بلورة إستراتيجية شاملة ومتماسكة لتفعيل الممكن من القوة الناعمة السعودية، مع الاستفادة مما هو قائم –حاليا– من جهود لا تنكر.. ويتم، بعد إقرارها من صانع القرار، إسنادها لجهة إدارية واحدة تعنى بمتابعة أمر بسط ونشر القوة الناعمة السعودية في أصقاع المعمورة بشكل دائم.. وليس هناك أفضل من هذه الفرصة التاريخية، التي تعيشها بلادنا في الوقت الحاضر، في ظل رؤية المملكة 2030، للشروع في هذا المشروع الحيوي والطموح.