ثورة تونس ضد الفوضى والاستسلام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عزت صافي
بعد سبع سنوات على ثورتها، تخترق تونس مجدداً الإعلام العربي والغربي، خصوصاً الأوروبي منه، بعد عودة التظاهرات الشعبية إلى ساحاتها وشوارعها في العاصمة وفي مدن المناطق، وتعود إلى ذاكرة التونسيين مأساة الشهيد الأول للثورة الفقير إليه تعالى محمد البوعزيزي الذي أشعل النار في ثيابه احتجاجاً على تنظيم محضر مخالفة بحقه لأنه لم يجدد رخصة عربة الخضر.
لا تغيير في أسلوب الثورة التونسية: حرق إطارات سيارات، وإغلاق طرق وشوارع، وهتافات، وبعض الحجارة في مواجهة القنابل المسيلة للدموع. لكن أرقام المعتقلين ارتفعت إلى نحو ألف في الداخل مقابل أكثر من 2500 في سجون إيطاليا وفرنسا، وهؤلاء من المغامرين الذين يخترقون الحدود الأوروبية في محاولات للإقامة والعمل من دون تأشيرة، ولا مال مقابل أبسط الحاجات.
وفي هذه الأثناء يجهد رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي للوفاء بالوعود التي قطعها بتوفير فرص العمل قدر الإمكان، وتخفيض الضرائب، وزيادة الأجور، من ضمن «حزمة» إجراءات إصلاحية تعود بالفائدة على نحو مئة وعشرين ألف عامل وموظف في مختلف القطاعات.
ولعلّ أهم إنجاز إنساني حققته الثورة التونسية منذ انطلاقتها حتى اليوم أنها لم تتسبب بقتل أحد من شعبها، أو بتدمير مرفق اقتصادي، أو عمراني، كما أنها لم تسمح لأحد بتعطيل دورة الحياة التونسية العادية، على ما فيها من بساطة وتواضع، لكن من دون التخلّي عن أي مطلب حق من المطالب التي رفعتها منذ الأسبوع الأول من شهر كانون الثاني (يناير) 2011. وقد كان إنجازها الكبير أنها أسقطت حكم الرئيس الفاسد زين العابدين بن علي، وأبعدته عن البلاد.
بات قليلاً عدد التوانسة الذين يعرفون الرئيس الأول للجمهورية التونسية المستقلة «المجاهد الأكبر» الحبيب بورقيبة الذي حكم البلاد ثلاثين سنة (1957– 1987). ومثل أي رئيس يتولى شؤون بلاده بعد تحريرها من استعمار طويل المدى الزمني لم يتمكن بورقيبة من رفع تونس إلى مصاف الدول المتقدمة، لكنه أرسى قواعد مدنية لشعبه قريبة من القواعد التي تعتمدها الدول الأوروبية، خصوصاً في مجال حقوق المرأة، وهذا ما وفّر للتونسية فرصاً متعددة لمنافسة الرجل في مختلف مؤسسات الدولة والمجتمع. ويذكر الذين عرفوا الرئيس بورقيبة كم كان «شعبياً» في تعامله مع مواطنيه، وكيف كان يتجاوب مع أفراحهم البلدية وأغانيهم الدارجة، ومن أشهرها أغنية المطربة «عُليّا» ومطلعها «هالقد طْويلة صالحة»!
لكن تونس، منذ مطلع ثورتها السلمية التي دامت أسابيع قليلة، لم تسترد بعد حيويتها، ولعل قادة حركتها يراجعون مسيرتهم ونتائجها ويقارنونها بما حدث من ويلات في العالم العربي (سورية– وليبيا– واليمن– والعراق) فيشعرون بالعزاء لأن بلادهم حافظت على مستوى معين من الاستقرار، والطمأنينة، وإن كانت أحلام الثورة ما تزال أمنيات في الخواطر، فكل أمر، مهما عظم، يهون أمام ما حدث حتى اليوم في دول الأنظمة العسكرية الطاغية التي تحكم بالنار، وبالموت، والرعب منذ سبع سنوات، وهي تستدعي جيوشاً، وأساطيل جوية وبحرية، أجنبية لتقتل ما تستطيع، وتدمر ما بُني وشُيّد خلال أعمار أجيال عبرت.
في المقابل، لم تحقق الثورة التونسية إلا النزر الضئيل من أهدافها، بعد. بل إنها ما تزال في المرحلة الأولى، قياساً بالنتائج المتواضعة جداً نسبة إلى شعاراتها والمطالب التي رفعتها: شغل- حرية- كرامة وطنية، وهذه أبسط الحقوق التي يسعى إليها أبسط الناس.
هذه المفردات الثقافية والسياسية والاجتماعية كنت أسمعها من أساتذة جامعيين، ونقابيين، وناشطين في المجتمع المدني خلال زياراتي الصحافية لتونس خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي. ولعل الحدث الأهم الذي سجّلته ونشرته قبل وقوعه بأيام معدودة، كان الانقلاب الذي نفذه الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وأطاح الرئيس التونسي التاريخي (الحبيب بورقيبة).
فخلال تشرين الأول (أكتوبر) 1987 كنت في تونس بدعوة من وزارة الإعلام ممثلاً جريدة «الخليج» الإماراتية. وفي ردهة فندق «أفريكا» وسط جادة «الحبيب بورقيبة» كانت بقربي صحافية فرنسية تجري حديثاً سياسياً مع رجل تونسي. كانت الأسئلة والأجوبة بالفرنسية، وكانت مسموعة بالحد الأدنى، وكان الموضوع جامعياً أكاديمياً، ثم تحوّل سياسياً. وبـــالحس الصحافي تحولتُ مصغياً باهتمام وأنا أقلّب صفحات جريدة تونسية بالعربية، ولم يكن في تلك الردهة أحد سواي من النزلاء. وفي نهاية الحديث غادرت الصحافية الفرنسية وبقي التونسي، وأنا، ولاحظت أنه يركّز نظره علي، ثم قال سائلاً: الأخ عربي؟. وكان سؤاله مدخلاً إلى تعارف سريع، ثم استأذن للجلوس أمامي، وعرّف عن نفسه بأنه تونسي وأستاذ علوم سياسية في جامعة تونس. وإذ عرف أني صحافي لبنـــاني تلفّت حوله، ولم يكن هناك أحد. وكانت المـــفاجأة عندما عرف اسمي، فهو قارئ صحف لبنانية وخليجية، ومنها صحيفة «الخليج» التي أسسها قطبان إماراتيان من دعاة الفكر الثقافي السياسي القومي العربي، هما الشقيقان المرحومان تريم وعبدالله عمران.
وأحياناً تأتي المصادفات بالحظوظ للصحافي الباحث عن حدث ومعلومات. فالأستاذ الجامعي برتبة عميد في جامعة تونس، كان من أشد المعارضين المكتومين لحكم الرئيس بورقيبة، وكان محافظاً وملتزماً واجباته الجامعية بأمانة وإخلاص وتجرّد، لكنه كان من الناشطين في دعم حركة الاحتجاج السرية والدعوة إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي. لذلك اعتذر عن عدم الكلام في السياسة، ثم أخذ ورقة وكتب عليها عنواناً في حي تــونسي قديم يسمى «باب حلق الواد» وقال لي: نلتقي مساء على العشاء هناك ونتكلم في «المحظور»!
وفي زاوية مطعم شبيه بمطاعم الحي اللاتيني في باريس تحدث الأستاذ التونسي عن البلاد، والحكم، والحكام، والأمن، والقوانين، وعن الشعب، والأحزاب، والجامعات، وعلى الأخص جامعة تونس حيث كانت تنتشر خلايا حزبية كان أكبرها حزب الرئيس بورقيبة (الدستوري) وكانت هناك خليّة ذات منحى ديني، وكان طلابها في عمر الفتوّة وزخم الشباب، وقد حرص بعضهم على إنماء شعر ذقونهم، وكانوا مميزين بنشاطهم، وتنظيمهم، وانضباطهم، وقد وصف لي الأستاذ الجامعي كيف أستدعي بعض هؤلاء الطلاب إلى ديوان رئيس الجمهورية في قصر «قرطاج» حيث دخل عليهم الرئيس بورقيبة بقامته القصيرة، ووجهه المتجهّم، وراح يتفرّس في وجوه الطلاب، فرداً، فرداً، وكان صفهم طويلاً، وإذ توقف أمام أحدهم، وكان طويل القامة نسبياً، مد الرئيس يده ليلامس ذقن الشاب محاولاً أن يمسك بعض الشعيرات بأطراف أصابعه، فما كان من الشاب إلا أن أطبق بقبضته على يد الرئيس وهو ينظر في عينيه صامتاً، حتى أرخى الرئيس يده، ثم لفظ كلمات قـــاسية وهــــو يتطلّع إلى الأستاذ المرافق للطلاب ويأمره بإخراجهم من الديوان.
كان إصغائي الشديد إلى الأستاذ الجامعي يحفّزه على سرد تفاصيل الوضع التونسي في تلك المرحلة، وكان صادقاً ومعبراً بعمق عن روح شعب تونس، وعن وعي جيلها وعزيمته وشجاعته وإيمانه بقدرته على التغيير.
كانت الساعة الأثرية على الجدار الخشبي قبالة طاولتنا في ذلك المطعم تعلن الثانية عشرة منتصف الليل، ولم يبق إلا عدد قليل من الرواد، وكان الصديق الأستاذ الجامعي ما يزال متحفزاً للمزيد من الكلام عن تونس وهموم شعبها، لــــكن دقات الساعة نبهته إلى الوقت، وكأن كل ما قاله ما كان إلا مقدمة لما سيقوله بعد، وهو المهم، بل الأهم، فنظر إلي صامتاً، وبدا متردداً، ثــــم قـــال بصوت منخفض: اسمع يا أخيّ (مشدداً على الياء) ما سوف أقوله لك خطير، وما كنت أحسب أن أقوله لأحد، وخصوصاً لصحافي، لكنك أخ لبناني (عْربيّ) وصحافي يمكن ائتمانه على مـــعلومات، ويكــتم مــصدرها إذا نشرها... فهل كلامي في موضعه؟
قلت له: كن واثقاً مطمئناً. ثم استدركت: لكن لا بد من كشف الاسم للمشرف العام على صحيفة «الخليج» وهو الأستاذ تريم عمران. فوضع راحة يده على جبينه، علامة القبول والاحترام.
وبعد صمت لثوانٍ قال بنبرة حادة وبصوت خافت: تونس مقبلة على انقلاب يذهب بالرئيس الحبيب بورقيبة.
ثم توقف ليقول كلاماً طيباً عن بورقيبة: «إنه شيخ تونسي وطني يحمل لقب «المجاهد الأكبر» لمقاومته الاستعمار الفرنسي الطويل الأمد، لكنه، حالياً، بات شيخاً عاجزاً، غير مدرك مسؤوليات الرئاسة، خصوصاً في القرارات المهمة، فضلاً عن ذلك فإنه ضعيف الذاكرة إلى درجة أنه ينسى أسماء أقرب المقربين إليه من معاونيه بل إن زوجته (الماجدة وسيلة) تحاول أن تغطي العجز في مقام الرئاسة، لكن إلى حدود.
وسألت الصديق الأستاذ: هل الجيش التونسي هو الذي يعدّ الانقلاب؟ أجاب: لا. إنه رئيس الحكومة زين العابدين بن علي. وأضاف موضحاً: إنه «الابن» الذي أنعم عليه الرئيس بورقيبة بأول وظيفة رسمية، ثم عيّنه سفيراً، ثم مديراً للأمن العسكري، فوزيراً للداخلية، ثم رئيساً للحكومة.
وإذ أنهى الأستاذ الجامعي (الذي نسيت اسمه) روايته وقف مستأذناً ليغادر، فقــــال: سوف أخرج قبلك، وسوف أقف على الرصيف المقابل للمطعم بانتظار سيارة «تاكسي»، ولا بأس عليك إذا بقيت فترة أطول، وسوف تجد تاكســي تـــأخذك إلى فندق «أفريكا».
وفي اليوم التالي، غادرت تونس إلى باريس حيث كتبت قصة الانقلاب المنتظر في تونس وكان العنوان «الرئيس الـــتونسي المنتظر آت من الأمن العسكري»، وحــــوّلت الموضوع بواسطة «الفاكس» إلى الأستاذ تريم عمران على عنوان صحيفة «الخليج» في الإمارات.
ونُشر المقال في الأسبوع الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) 1987، فاحتجت سفارة تونس في أبو ظبي، وطلبت من رئاسة تحرير «الخليج» التبرؤ من المقال ومن مسؤولية نشره مع الادعاء عليّ قانونياً.
لكن «الخليج» رفضت الاعتراض والطلب. وبعد أسبوع خرجت الصحف العربية والأوروبية بعنوان: انقلاب في تونس يطيح رئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة.
هي سبع سنوات عجاف من عمر الثورة التونسية، لكن ثورة تونس حريصة على أن تبقى مدنية ومحصنة ضد الفوضى أو الاستسلام.