روسيا وأزمة الخروج من سورية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
إبراهيم النحاس
من الأهمية القول إن روسيا التي تدخلت لإنهاء الأزمة السورية بمناهج القرن العشرين، وجدت نفسها في أزمة غير قادرة على حلها أو حتى الخروج منها بالشكل الذي يحفظ لها مكانتها..
لا يكفي أن تكون قوة عظمى بما تملك من أدوات، وإنما بما تستطيع إظهاره وإثباته من إمكانات وقدرات تجعل المجتمع الدولي ينظر لك كقوة عظمى فاعلة على المستوى الدولي ولاعب رئيس في السياسة الدولية. لعل هذا الهدف العريض أحد الأسباب الرئيسة التي قادت روسيا للدخول في ملف الأزمة السورية بثقلها السياسي والعسكري منذ سبتمبر 2015م لدعم نظام البعث السوري الحليف التاريخي لروسيا في المنطقة.
روسيا التي خسرت موقعها في القطبية الثنائية بتفكك الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينات من القرن العشرين، تتخوف من تفاقم خسائرها بفقدان نفوذها الأخير في جغرافية منطقة الشرق الأوسط. فسقوط نظام البعث في سورية يعني بالضرورة خروج روسيا من معظم مناطق نفوذها الجغرافي دولياً، وبالتالي انكفاؤها في الداخل الروسي وتراجع دورها العالمي. إذاً هي سياسة الأمر الواقع التي تفرض على روسيا المُبادرة لحماية تواجدها في سورية بالمحافظة على حليفها التاريخي. فإذا كانت هذه هي الحسابات الورقية والنظرية، فهل يمكن أن تحقق روسيا ذلك على أرض الواقع؟
مع الإقرار بأن روسيا ما زالت دولة عظمى بما تملك من إمكانات وقدرات سياسية وعسكرية واقتصادية وغيرها من قدرات، إلا أنني أعتقد بأن هذه الإمكانات والقدرات لن تعطي روسيا مكانة دولية أكثر مما كانت عليه قبل الأزمة السورية. فعالم القرن الواحد والعشرين يختلف تماماً عن عالم القرن العشرين؛ والأدوات والقدرات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي يمكن أن تحقق نجاحات وتفوقاً في السياسية الدولية في القرن العشرين تغيرت مناهجها وأساليبها في القرن الواحد والعشرين. بمعنى آخر، إن الأهداف والنجاحات التي تستطيع تحقيقها عبر مناهج وأساليب أدوات القدرة في القرن العشرين، لن تستطيع أن تحققها في عالم القرن الواحد والعشرين.
فروسيا التي تدخلت في عمق الأزمة السورية بهدف تعزيز موقعها في السياسة الدولية، يبدو أنها لن تتمكن من المحافظة على ما كانت تملك من نفوذ، وقد تخسر أكثر مما كانت تملك. فروسيا التي أرادت تعزيز مكانتها في السياسية الدولية، استخدمت أداتها الدبلوماسية في مجلس الأمن لتعطل جميع المبادرات الدولية الرامية لحل الأزمة السورية؛ فخسرت بذلك احترام الرأي العام الدولي. وروسيا المتطلعة لزيادة نفوذها على المستوى الدولي وظفت ثقلها السياسي للدفاع عن نظام البعث وسخرت أدواتها الدبلوماسية للدفاع عن وجهة نظره؛ فتوترت وتراجعت علاقاتها السياسية مع بعض الدول المؤيدة لأبناء الشعب السوري. وروسيا التي عقدت المؤتمرات السياسية وحشدت الوفود السورية من ذوي التوجهات السياسية والحزبية المؤيدة في غالبها لنظام البعث؛ خسرت جانباً من قبولها الشعبي داخل سورية وتراجع نفوذها في جزء من الأراضي السورية التي يسيطر عليها أبناء الثورة. وروسيا التي وظفت قدراتها العسكرية واستخدمت أسلحتها الحديثة واستعرضت قدراتها التكنولوجية في استهداف المواقع الأرضية؛ خسرت الرأي العام العربي والإسلامي، وتراجعت مكانتها في ذاكرة الشعوب العربية والإسلامية.
دخلت روسيا في عمق الأزمة السورية بمنهجها التقليدي وبأسلوبها المُتعالي الذي أدى سابقاً لخسارتها مواقع نفوذها وتراجعها في القطبية الدولية. عالم القرن الواحد والعشرين هو عالم التقدم التكنولوجي غير المحدود بوسائل الاتصالات ونقل المعلومات الذي جعل العالم كالمدينة الواحدة. هذا العالم الجديد الذي عبّر من خلاله أبناء الشعب السوري عن تطلعاتهم في نظام سياسي جديد يحترم حقوقهم ويستمع لأبسط مطالبهم ويحافظ على كرامتهم ويصون دماءهم؛ إلا أن هذه المطالب الأساسية لم يستمع لها نظام البعث ولم تحترمها روسيا. فكان أن نقلت وسائل الاتصالات ونقل المعلومات الحديثة مشاهد تدمير المدن وسفك الدماء السورية بأدوات عسكرية حديثة. إنه عالم القرن الواحد والعشرين الذي ينقل مشاهد وصوراً مباشرة لمقاتلات حربية حديثة تدعم نظام البعث وتلاحق أبناء الثورة السورية وتهجر الملايين منهم. هذا ما يشاهده الرأي العام من السياسات الروسية التي تسببت وساهمت بلجوء الملايين من أبناء الشعب السوري لمختلف المدن العالمية.
وفي الختام من الأهمية القول إن روسيا التي تدخلت لإنهاء الأزمة السورية بمناهج القرن العشرين، وجدت نفسها في أزمة غير قادرة على حلها أو حتى الخروج منها بالشكل الذي يحفظ لها مكانتها. فإن اعترفت بذلك فمكانتها في السياسة الدولية سوف تتراجع، وإن استمرت بإدارة الأزمة بمناهج القرن العشرين فمزيداً من الخسائر السياسية ومزيداً من التراجع في نفوذها الدولي. فهل تُدرك روسيا أن الانتقال لعالم القرن الواحد والعشرين يساعدها في الخروج من الأزمة السورية أو يُساهم في حلها وأجدى من عقد المؤتمرات بمدن ودول مختلفة؟ فالتكلفة أكبر بكثير من المكاسب التي سوف تتحقق؛ إن كان هناك مكاسب ستتحقق!