جريدة الجرائد

صناعة الوهم العربية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

عبدالله بخيت

أثناء تأليف رواية (التابوت النبيل) كان علي أن أقوم بجولة موسعة في تاريخ العرب الحديث. اطلعت على تاريخ العراق الملكي ثم الجمهوري والصراعات الإعلامية التي عبرت عن هذه النقلة. قرأت تاريخ تركيا الأتاتوركية حتى نهاية حقبة السبعينات، قرأت تاريخ ما يسمى شمال أفريقيا. بن بله وبن خده والحسن الثاني وثورة الفاتح، وقرأت تاريخ الخليج إبان الاستعمار البريطاني وبعد رحيله، وقرأت الوحدة بين مصر وسورية... إلخ.

لم يكن هدفي سياسياً أو تاريخياً. كان هدفي أن أتقصى الحقائق التي شجعت على نمو وتفشي نظرية المؤامرة في الذهن العربي (ثيمة الرواية). أهم ملاحظة تبدت أمامي وجود فراغ ضخم يفصل بين الناس وبين ما تقوله وسائل الإعلام العربي. تناقض بين ما تقوله الإذاعات والصحف الرسمية العربية وبين أبسط محاكمات العقل المنطقية. في ظل نقص مريع في المعلومات التي تصل للناس تشكلت كتل من الغموض غرق فيها المنطق. كل كلام كبير يقال لا وجود له على الأرض. مشروعات وانتصارات وحريات وعود ضخمة لن تنجز لأنها لا يمكن أن تنجز. عبدالناصر وصدام والقذافي وحزب البعث قدموا وعوداً بالوحدة، والخميني قدم وعداً بالقضاء على الاستكبار شمل به إخوانه العرب، والشقيري وعد بتحرير فلسطين وعبدالفتاح إسماعيل وعد بالاشتراكية. حتى على مستوى المشروعات الاقتصادية أو التعليمية من لم ينجز مشروع واحد باستثناء السد العالي في مصر.

من يقرأ تاريخ العرب الحديث سيرى أن الشعوب العربية عاشت في عالم افتراضي. لم يخرج من هذا العالم الافتراضي إلى الواقع شيء حتى الآن.

المأساة أن أنتج هذا الواقع الافتراضي نظرياته وعلومه الخاصة. عندما تقف أمام المرحلة لن ترى استعماراً. العرب يحكمون أنفسهم. مصر حرة وليبيا حرة والعراق حرة والجميع أحرار. لا يوجد شيء اسمه صراع مع الاستعمار على الأرض وفي الواقع، ولكن الزعماء العرب استمروا في هذا الصراع بعد أن نقلوه من الواقع إلى العالم الافتراضي. ولأن الأدباء والمفكرين والشعراء وكتاب السياسة ميدانهم الخيال والفكر المجرد والتوقعات استضافوا السياسي على أرضهم. فتدفقت القصائد والمسرحيات والدراسات وانتجوا للسياسي العدو الوهمي وقرروا مجابهته والتصدي له.

لا أحد يرى الاستعمار يجوب في شوارع القاهرة أو بغداد كما كان في العقود السابقة فتبين أنه استتر. صار يعيش في الزوايا الخفية وفي بيوت الخونة المندسين والرجعيين وأذناب الاستعمار. أمام هذه المنازلة الكبرى أعطوا الاستعمار أسماء كثيرة الصهيونية الإمبريالية الرجعية الماسونية.

العالم الافتراضي الذي بناه جيل الخمسينيات والستينيات ما زال باقياً. لم يتوفر سبب واحد يدعو لإزالته. بعد أن تعب العروبيون من رعاية هذا العالم الافتراضي تقدم الإسلاميون وتولوا الأمر بكل اقتدار.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف