عن المسيحية الإنجيلية والأصولية الأميركية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
صلاح سالم
انتصرت الثورة الأميركية وولدت من رحمها أول جمهورية ديموقراطية، وبعدها بقليل هبت رياح الثورة الفرنسية التي انتصرت لمفهوم العلمانية، ولم ينته القرن الثامن عشر إلا وقد نضجت فلسفة التنوير، ودخل الناس «عصر العقل»، حيث صارت الفضائل علمانية وإنسانية من قبيل الحرية والمساواة والأخوة والعدالة. وكان الاعتقاد الأكثر رواجاً في الغرب طيلة القرن التاسع عشر يدور حول مفهوم التقدم، فالسياسات والمجتمعات سوف تصبح بالضرورة أكثر اتحاداً وعقلانية عن طريق التعليم والتربية والحرية الفردية.
وفي هذا السياق كان على الدين أن يتخلى تدريجياً عن ادعاءاته بالحق في تنظيم المجال العام، حيث جرت تعديلات دستورية لم تعد تشير إلى دور الإله في نشأة الاتحاد الأميركي إلا إشارات عابرة، وفي عام 1786 أعلن توماس جيفرسون أن الكنيسة الإنغليكانية لم تعد الكنيسة الرسمية في ولاية فيرجينيا، لأن القسر في مسائل الدين «ينم عن الخطيئة والطغيان»، ولأن الحقيقة سوف تنتصر إذا سُمح للناس باعتناق أفكارهم الخاصة، ومن ثم لا بد من إقامة جدار يفصل بين الدين والسياسة. وقد حظي المرسوم بتأييد كنائس المعمدانيين والميثوديين والمشيخيين، المستاءين من المكانة المتميزة التي كانت كنيسة إنكلترا تتمتع بها في الولاية.
وقد سارت الولايات الأخرى على هذا الطريق في ما بعد، وأعلنت عدم وجود كنيسة رسمية لأي منها. وفي إطار لائحة الحقوق في 1789 كان التعديل الأول للدستور يفصل رسمياً بين الدين والدولة، فلا يضع الكونغرس أي قوانين لتحديد الدين الرسمي أو لحظر حرية الممارسة الدينية، ومنذ تلك اللحظة أصبحت العقيدة مسألة فردية خاصة وطوعية. وكانت ولاية ماساتشوستس آخر ولاية تفعل ذلك في 1833.
غير أن نزعة ممانعة بيوريتانية لصيرورة العلمنة هذه، أخذت شكل انبعاثات مضادة شكل أولها، مطلع القرن التاسع عشر، ما أسماه مارتن مارتي «اللحاف المجنون للمذهبية البروتستانتية». ففي الوقت الذي كانت تنحسر المسيحية الأوروبية، غير قادرة على مواجهة الثورات الصناعية والسياسية والثقافية، كانت أميركا تدخل في صحوة دينية ظهرت في أنشطة فردية، وفي تشكيل مؤسسات من قبيل «الجمعية الأميركية للكتاب المقدس» في 1816، و «الاتحاد الأميركي لمدارس الأحد» في 1824، بهدف نشر وتوزيع الكتاب المقدس، وبناء الكنائس والمدارس والجامعات اللاهوتية، والقيام بالحملات الدينية وإلقاء المواعظ. وبانتصاف القرن تمكنت هذه الصحوة من أن تصرف كثيرين عن المذهب الجمهوري الكلاسيكي للمؤسسين، وتدخلهم ساحة الديموقراطية السوقية والنزعة الفردية الغليظة التي تميز الكثير من مظاهر الثقافة الأميركية اليوم، والتي كان أليكسيس دي توكفيل قد حذر منها آنذاك في كتابه الشهير عن الولايات المتحدة.
وجاء الثاني، مطلع القرن العشرين، في مواجهة علمنة التعليم العام وفقدان السيطرة البروتستانتية على النطاق العام للمجتمع الأميركي، ومن ثم ظهر مصطلح الأصولية ليميز أصحاب العقيدة المسيحية الأصلية عن أتباع المذاهب العصرية ذات المضامين التساهلية والمواقف النسبية. ومن أهم المقولات التي تعود إلى الأصوليين مبدأ «عصمة الإنجيل»، الذي أقام الأصوليون على أساسه عام 1925 دعوى قضائية ضد مدرّس كان يعرض في محاضراته لنظرية داروين في التطور.
أما الثالث، وهو الأهم، فيرجع إلى سبعينات القرن العشرين، ويندرج في سياق عام لصحوة أصولية في الأديان العالمية الكبرى، وفي سياق خاص أميركي يتمثل في الاحتجاج الأخلاقي على المستوى الفائق من العلمنة الذي نال من القيم الروحية المسيحية باسم التوجه الإنساني العلماني وحركة الحقوق المدنية منذ الستينات.
لكن على رغم ذلك، فإن الأصولية الإنجيلية هذه لم تتورط في عنف واسع، يشبه ما تقوم به الأصولية الإسلامية منذ السبعينات وهو أمر يمكن تفسيره بثلاثة أسباب:
أولاً: أنها حركة ما بعد علمانية، نشأت في مجتمع تجذرت فيه العلمانية قبل قرن مضى، سواء في الفضاء القانوني أو السياسي، وذلك عكس نظيرتها الإسلامية التي ظهرت في بلدان اقتصرت العلمانية فيها على النخب المتغربة جزئياً. فالمسلم يسمع ويقرأ مفردات ومصطلحات القرآن، فيعرفها أو يتذكرها بسهولة ويسر لأن مرجعيته الدينية حاضرة، أما الأميركي، وبتأثير العلمانية، فيحتاج إلى إعادة تعلم مفردات ومصطلحات الكتاب المقدس، ولذا تبقى أصوليته غير حادة.
ثانياً: أن السياق العام المحيط بها يتمثل في مجتمع ديموقراطي، يتقيد بثقافة وتقاليد تعددية، ولذا فهي لم تلجأ إلى العنف إلا في نطاق جماعات هامشية كونها، هي الأخرى، لم تتعرض للقمع العنيف الذي تعرضت له نظيرتها الإسلامية. والأهم من ذلك أن التقاليد الديموقراطية سمحت لها بالتعبير عن نفسها من داخل النظام السياسي كقوة تصويتية مؤثرة على كافة الأصعدة من مجالس المدارس ومجالس المدن في ولايات عدة، إلى الكونغرس وحكام الولايات. بل إن اليمين المسيحي، ضمن سعيه إلي التنصير من فوق، دفع بمرشح للرئاسة في الانتخابات الأولية للحزب الجمهوري عام 1988 وهو بات روبرتسون، قبل أن تتكرر المحاولة في الترشيحات التمهيدية للانتخابات الرئاسية لعام 2000 من خلال غاري بوير الذي خاض معركة ترشيحات الحزب الجمهوري لكنه لم يكمل الطريق.
ثالثاً: أنها نشأت في مجتمع رأسمالي يقوم على الحرية والتنافسية، ولذلك نجدها تعمل بمنطق السوق، لدرجة أنه يمكن القول بوجود «سوق أميركية للدين» تتنافس فيها الشبكات التلفزيونية الدينية أي «الكنائس المرئية»، والجامعات اللاهوتية، ومنظمات التبشير، ووسائل النشر المطبعي والإلكتروني المسيحية، في ظل غياب دين رسمي للدولة أو كنيسة قومية. وهو ما أعطى الأصولية المسيحية نطاقاً للحضور داخل المجتمع المدني، ووفر لها قدراً من الإشباع والتوكيد الذاتي، أغناها ولو جزئياً عن طرح مطالب عنيفة في مواجهة النظام السياسي.
ويمكن أن نضيف عاملاً آخر يتمثل في عدم وجود عدو صريح، متفوق وقوي واستعماري، من قبيل الغرب بالنسبة إلى الأصوليين المسلمين. فمن أجل تعبئة فاعلة تحتاج أي مجموعة بشرية إلى أيديولوجيا كفاحية تبرر لها تضحياتها في مواجهة آخر متمايز جذرياً، ولا سبيل إلى مقارعته إلا بهذا النوع من العنف. وبينما كان ممكناً للمتطرفين الإسلاميين أن يشجبوا ثقافة الغرب المنحلة، وإعلامه الماجن، وسياساته الإمبريالية، فإن الأصوليين الغربيين، الذين يحيون في مجتمع قوي، ومتفوق، يرتاد أفق الحضارة الإنسانية، وليست لديه عقد نفسية إزاء آخرين متفوقين عليه (الآن)، لم تكن لديهم دوافع للحشد تقارب نظيرتها لدى الإسلاميين، بينما كانت لديهم قنوات لتفريغ الغضب أكثر كثيراً من الإسلاميين هؤلاء.