جريدة الجرائد

أساتذة الجامعات والانتماءات الفكرية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

  حسن حنفي 

أستاذ الجامعة ليس فقط حامل العلم لتلقينه للطلاب لحفظه وإعادته إليه في الامتحان، بل هو صاحب موقف ووجهة نظر، يقبلها البعض ويرفضها البعض الآخر. فقد كان أفلاطون تلميذاً لسقراط، يعبر عن رأيه وعن آراء أخرى. وكان أرسطو تلميذاً لأفلاطون يعبر عن وجهة النظر المقابلة. بل إن تاريخ الفلسفة الغربية كله هو هذا التقابل وليس التعارض بين الرأي والرأي الآخر: كانط والكانطيون الجدد، هيجل والهيجليون الشبان، هوسرل وفلاسفة الوجود.

الأستاذ الجامعي ليس جهاز تسجيل يسمعه الطلاب أو إنترنت يقرؤنه بل هو موقف جدلي. وينتظر أن يأتيه الطالب بالرأي المقابل. لذلك يشكو الطلاب من عدم انتماء الأستاذ إلى شيء، ومن أنه لا يثير فيهم فكراً ولا نقاشاً. فالدرس ميت كالأستاذ. وقد كتب كثير من الفلاسفة مثل رويس عن «فلسفة الولاء» ليبين أن جوهر الإنسان هو الولاء لشيء حتى لو كان لنفسه أو محبيه أو وطنه.

وقد ازدهرت جامعات الرأي والرأي الآخر في مصر قبل ثورة يوليو 1952، إذ أن كليات الآداب والحقوق لا تستطيع العيش دون حوار فكري بين مختلف وجهات النظر. ونشأت مساجلات بين الأساتذة توحي بيقظة العقل المصري. كما نشأت الليبرالية في أحضان هذا الجدل عند أحمد لطفي السيد وطه حسين ومصطفى عبد الرازق. كما نشأت مدارس نقد أدبي مثل أمين الخولي. ونشبت المعارك الفكرية والأدبية في الصحف. وأصبحت موضوعاً للنقاش العام بين مختلف فئات الشعب. وقامت الجمعيات الأدبية والاقتصادية والسياسية والتشريعية والفلسفية في هذه الفترة لسماع نقاش أهل الاختصاص، واختلاف آرائهم. ولم تكن هناك خشية من شيء. وكانت فاجعة كبرى أن يصادر رأي أحد كما حدث مع كتاب «في الشعر الجاهلي» لطه حسين، أو أن يستبعد أحد من الجامعة كما حدث مع أمين الخولي بسبب كتابه «التصوير الفني في القرآن».

ولم ينل ذلك التعدد في الآراء من الوحدة الوطنية المصرية التي اجتمعت عليها كل القوى الوطنية، وقامت على مبادئ مثل: سقوط الاستعمار، والمناداة بـ«الاستقلال التام أو الموت الزؤام»، وبوحدة مصر والسودان. واشترك الجميع في مظاهرات 1946 عندما فتح عليهم كوبري عباس لإغراقهم في النيل. وهي البيئة الوطنية التي تكوّن فيها الضباط الأحرار قبل حرب فلسطين 1948 وثورة يوليو 1952.

وعندما قام طلاب الجامعة ضد معاهدة الجلاء في 1954 والتي كانت تسمح بعودة القوات البريطانية لمنطقة القناة في حالة الضرورة القصوى، تعرضوا لمشكلات ومضايقات حيث فُصل بعضهم. وفرض الضباط الأحرار نظام الفصلين الدراسيين كي ينشغل الطلبة بالامتحانات. ومنع انشغال طلاب الجامعات بالسياسة أو الدين. وفرضت هيئة التحرير كنظام طلابي واحد. وتحولت جامعات الفكر الحر والرأي والرأي الآخر إلى جامعات للتلقين والحفظ، والملازم والكتاب المقرر والنجاح، دون تعلم.

الإرهاب قضاء على الآخر، والانتماء الفكري هوية المفكر وتأكيد لوعيه الذاتي. وإن كان لكل الأحزاب، من اليمين إلى اليسار، أجنحة سرية هي عصب الحزب وطليعته، فإن التنظيمات الإرهابية الحالية خارج الأحزاب السياسية، وهي تريد القضاء على الدول الوطنية القائمة، وتحن إلى الخلافة القديمة وعصر الصحابة!

لذلك تفخر بعض الجامعات العريقة في الغرب الديمقراطي بمدارسها وتياراتها الفكرية النشطة والغنية، مثل أكسفورد، وكامبريدج. لكن في بعض الجمهوريات العربية الاستبدادية لا يزال الولاء للنظام يحظى بالأولوية على الانتماء الفكري والوطني، لذلك لا مكان في عرفهم لأفكار الأستاذ الجامعي ولا لانتمائه الفكري.

 

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف