فلسفة الجهل لا تدرك معنى «الأذان»
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
محمد المزيني
«فقدت الأذان»... هذا ما قالته معلمتنا الإنكليزية في بريطانيا كريس بكل رباطة جأش وثقة، إجابة لسؤال زميل فرنسي عما استأنست به في دمشق، إبان عملها هناك وفقدته هنا في بريطانيا، وكي تبدد تلك الدهشة البادية على وجوه الأوروبيين والبرازيليين والصينيين قبل المسلمين (زملاء الصف)، أضافت قائلة: «كان الأذان يمنحني استشعاراً بالحياة بما يدخل السعادة ومعها السكينة إلى روحي. الأذان أصبح في حياتي (الدوزان) الذي أعرف به مواقيتي، وأعرف به أن الحياة في ديمومة متسقة مع حركة الكون وسكناته»، وأضافت: «لم أفوت وقتاً من الأوقات من دون أن أستمع فيه للأذان، كنت أصحو فجراً على صوت الأذان، كان بمثابة المنبه الرفيق بي».
سألها زميل عربي: ألم تفكري بدخول الإسلام؟ أجابت: «لم أفكر قط، لأننا كلنا نصل إلى الله بطرق مختلفة».
المعلمة كريس اختصرت معاني كثيرة في كلمات قليلة، وهي لم تقرأ الحرب الضروس التي خاضها مصطفى كمال لانتزاع تركيا من أحضان التعاليم العربية لأجل إقامة «وتد القومية التركية» على أنقاض الهوية العربية، مستعيضاً عن الأذان باللغة العربية بالأذان باللغة التركية.
الجهل يمنح بعض «المتشدقين» آراء فارغة، تحاول انتزاع الحقائق الثابتة المغروسة في أرواح الناس والتلاعب بها فقط لتحقيق غايات خاصة، وأسوأ تلك الغايات المستبطنة للانتقام الذي تسوقه دوافع نفسية صنعتها تجارب سابقة مع بعضهم، لتعمم الخصومة مع الكل وتأخذ أبعاداً قيمية، ليسهل التلبيس على الناس واقتيادهم إلى «حمأة» صراع حول الأسس، ولاسيما تلك المتعلقة بالهوية، ومنها «الأذان»، الذي يفتخر به العرب قبل غيرهم أن لغتهم تصدح، عبر مكبرات الصوت، في كل أقطار العالم.
مدرسة الجهل المتفشية في بعض أقطارنا العربية تحاول «وأد» الهوية الحقيقية للأمة بادعاء علماني لا يمت إلى الوعي العلماني الحقيقي بصلة، متجاوزين بذلك المدرسة «الأتاتوركية» نفسها التي مجدت اللغة التركية على حساب العربية، فكانت نموذجاً تاريخياً «لتتريك الدين الإسلامي»، من خلال حظر استخدام اللغة العربية ومعها الحروف العربية، وتبديل لغة الأذان إلى اللغة التركية بقرار صارم عام 1938، وفي 1950 أصبح يرفع باللغة العربية بقرار حاسم من رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس، الذي ذهب لاحقاً ضحية هذا القرار وقرارت أخرى، بإعدامه شنقاً بعد ذلك بـ10 سنين، ولكي يفهم مدّعو العلمانية الجوفاء خالية الوفاض من أي معنى للعلمانية، فإن مندريس لم يعلن في أي من الإجراءات أنه كان إسلامياً أو مؤيداً للإسلاميين، بل على العكس من ذلك، وضع تركيا في قلب العالم الغربي، حينما انضمت تركيا في عهده إلى حلف شمال الأطلسي، إلا أن ذلك لم يشفع له، وكانت كلمته الأخيرة قبل إعدامه: «في تلك اللحظة التي أنا فيها على وشك مفارقة الحياة، أتمنى السعادة الأبدية للدولة والأمة».
لم يعلم أو لم يدرك أصحاب مدرسة فلسفة الجهل أن ثمة أرواحاً أزهقت فقط لأنها حاولت استعادة الهوية الشعائرية الدينية باللغة العربية، لم يدرك هؤلاء أن الصفة العربية في بعدها الأممي موجودة ومكرسة في كل دول العالم، وأنه تحديداً تتجه بوصلته إلى مكة المكرمة. العلمانيون الحقيقيون لم يروا بأسا في الأذان، وقد يطرأ قريباً بعض التعديلات على القوانين الغربية لتسمح للمساجد هناك بأن تصدح بالأذان عبر المكبرات الصوتية، بوصفه حقاً قانونياً يدخل في ما يسمى بـ«حرية الأديان»، مثله مثل نواقيس الكنائس، ليظل الصوت الأعلى في كل دول العالم هو الأذان.
ليس هناك أغرب من علمانية بعض الأعراب، إذ كيف يفوتهم ذاك المعنى العميق للأذان، الذي ينعش الروح ويطرب الفؤاد، وليس خللاً فيه أن بعض المؤذنين لديهم أصوات «حرشاء»، أو أن المسؤولين عن انتخاب المؤذنين لم يتحروا الدقة في اختيار الأصلح من ذوي الأصوات الخاشعة لرفع الأذان، لماذا حتى الآن نغض الطرف عن استيعاب كينونة الأذان ووضعه في إطاره الصحيح، بوصفه هوية عربية إسلامية صرفة، يضعنا في أحضان العالم.
في بعض أقطار العالم العربي التاريخية لم يتوقف الأذان قط، سواء أكان في حرب أم سلم، لأنه يشي بالروح النقية المتوازية داخل كل إنسان يفيق عليه ساعة تستبد به المعصية، ومع ذلك لم يتأذ المؤمنون من وجودها، كما لم يتأذ الآخرون من صوت الأذان، لأنها كما قالت المعلمة كريس تعيد إليهم رتابة الوقت وطمأنينة القلب، فليس للأذان أدنى ارتباط تاريخي بأية جماعة دينية، سلفية كانت أم صحوية أم شيعية أم سنية، بالمعنى السياسي لها، فهو شعيرة إسلامية مطلقة، مهما كانت صفة المؤذن، كما أنه «طابع» (ثيمة) موضوعية ذو علاقة وطيدة بالعربية، حمل بين طياته كثيراً من المعاني، من أهمها اللغة التي تمارس بها الشعائر والعبادات الإسلامية. أعجب من بعضهم تفويت هذا «الطابع» اللغوي للاقتراب به من الآخرين، حتى ولو لم يكونوا في علاقة تصالحية مع الدين، العجز وحده أقعدهم عن استلهامه بوصفه تراثاً تاريخياً يصفهم، والجهل دفعهم إلى تعليقه في جماعة من الجماعات «الصحوة» مثلاً باعتبارها تهمة مبتذلة، قصرت بهم عقولهم عن إدراك معنى أنهم بهذا يقلدونهم رمزاً شعائرياً يقوي شوكتهم، وليصبح هو السيف الذي يحاربون به خصومهم، بينما هو الوشيجة المتلازمة مع حياتنا، وجزء من تكوين أرواحنا المنبثقة دائماً نحو السماء، يعيد صياغتها بما يبعث الأمل فيها وينعشها، مهما اختلفنا في اتجاهاتنا ورؤانا، إسلاميين كنا أم علمانيين، يظل الآذان ساعة يرفع بصوت شجي البوصلة التي تشير إلينا، وبخاصة نحن أبناء القبلتين، ومن خلفنا كل العالم.