جريدة الجرائد

في حضرة «فوكوياما»

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

 عبدالله المدني 

بغض النظر عن رأينا في نظريات المفكر الأميركي من أصل ياباني «فرانسيس فوكوياما»، وعلى رأسها نظرية «نهاية التاريخ» التي طرحها في أعقاب انتهاء الحرب الباردة والثنائية القطبية، فأشهرته قبل أن يتبين عدم صوابها. أقول بغض النظر عن كل هذا، فإن المرء لا يمكنه إغفال ما يتمتع به الرجل من حضور، وفكر رصين، وسلاسة في التعبير، وقدرة على شد انتباه المتلقي وإيصال فكرته إليه دون إدخاله في متاهات. هذا ما لمسته شخصياً ولمسه غيري ممن استمعوا إليه في جلسة من جلسات مؤتمر القمة العالمية للحكومات الذي عقد في دبي ما بين 11 ــ 13 من فبراير المنصرم.

في تلك الجلسة الحوارية التي أدارها وزير الدولة للشؤون الخارجية في دولة الإمارات الدكتور أنور محمد قرقاش، شعرت وكأنني عدت، بعد أن غزا الشيب مفرقي، إلى مرحلة الدراسة الجامعية العليا كطالب علاقات دولية يستمع إلى أستاذه وهو يحلل شؤون العالم وشجونه. ما طرحه «فوكوياما» في تلك الجلسة من أفكار ورؤى وإجابات كانت كثيرة بطبيعة الحال، لكني سأتوقف عند ثلاث مسائل جديرة بالنقاش.

أولاً: في مسألة ما يمر به النظام الكهنوتي الإيراني من أزمات أدت مؤخراً إلى انفجار جماهيري واحتجاجات ضد سياساته العبثية خارج بلاده، بما فيها وضع ثروة البلاد النفطية في خدمة الميليشيات الأجنبية بدلاً من إنفاقها على تحسين أحوال الشعوب الإيرانية، بسط فوكوياما القضية كثيراً، وبصورة لا تليق بمفكر مثله، بل جاء بما لم يأت به أحد قبله كتفسير للأزمة الداخلية الإيرانية. فهو لئن أكد أن إيران سوف تنفجر من الداخل بسبب وجود طبقة شابة متعلمة سئمت من الخضوع لسلطة دينية متشددة، فإنه عزا موجة الاحتجاجات الأخيرة إلى ظاهرة الاحتباس الحراري.. نعم إلى الظاهرة المناخية فحسب! وإيضاحاً للجزئية الأخيرة فإن فوكوياما يرى أن العوامل المناخية الصعبة التي مرت على إيران، محدثة الجفاف ونقص المياه، وبالتالي نقص المحاصيل الزراعية التي يعتمد عليه إيرانيو الأرياف في معيشتهم، ساهمت مجتمعة في موجات نزوح من الريف إلى المدن، الأمر الذي تسبب في تكدس العاطلين وانتشار الأمراض والضغط على البنى التحتية المهترئة أصلاً، فكانت المحصلة خروج هؤلاء إلى الشارع احتجاجاً وتنديداً بالنظام الحاكم ورموزه.

ثانياً: في ما خص ظاهرة الإسلام السياسي التي تقودها جماعة «الإخوان»، ونزوع الأخيرة إلى استغلال الصعوبات التي يعيشها بعض الأنظمة العربية والإسلامية للقفز إلى السلطة، كان رأي فوكوياما أيضاً غير مقبول ومستهجناً؛ لأنه أصر على تصنيف هذه الجماعة ضمن الجماعات الإسلامية المعتدلة، متناسياً بذلك آلاف الأدلة على دمويتها وإرهابها وإقصائها لمعارضيها، ناهيك عن استماتتها لبلوغ السلطة بأي وسيلة، وإن كانت قذرة ومخالفة لتعاليم الإسلام، وذلك على نحو ما تجلى في السنة اليتيمة التي حكموا فيها مصر المحروسة، دعك مما اقترفوه في تونس والسودان، ودعك من تاريخهم الأسود في التآمر على السعودية والإمارات وغيرهما، وارتباطهم بعلاقات سرية مع النظام الإيراني التوسعي وتنظيم «داعش» الإرهابي وحركة «طالبان» الدموية.

ثالثاً: في ما يتعلق بمستقبل الصين وصعودها، كان لافتاً أن الرجل الذي تبنى نظرية نهاية التاريخ هو نفسه الذي صار يتبنى فكرة أن الصين سوف تغدو خلال السنوات العشرين أو الثلاثين المقبلة قطباً عالمياً يتحكم في مصائر الكون وشؤون العالم خلفاً للولايات المتحدة الأميركية. هذه النظرية تبناها قبله بعض مواطنيه الأكاديميين، لكن أن يتبناها فوكوياما (صاحب نظرية «أن التاريخ قد انتهى بقيام نظام عالمي أحادي القطب على رأسه الولايات المتحدة») فهو مصدر الاستغراب.

نعم الصين ــ ما لا شك فيه ــ قوة اقتصادية جبارة استطاعت خلال فترة وجيزة أن تحتل مكان اليابان كثاني أعظم اقتصاديات العالم بعد الولايات المتحدة، والصين من ناحية أخرى صاحبة قوة عسكرية متنامية ومخيفة، وتحاول أن تبني لنفسها موطئ قدم في البحار والمحيطات البعيدة وفي العديد من الأقطار الآسيوية والأفريقية، عبر إقامة قواعد عسكرية دائمة (نجحت حتى الآن في إقامة قواعد في سريلانكا وباكستان وميانمار وجيبوتي). لكن هل بالاقتصاد والقوة العسكرية وحدهما تتحول الأمم إلى «سوبر باور كوني»؟

ما جعل الولايات المتحدة تكتسب هذه الصفة ليس قوتها الاقتصادية والمالية والتجارية الهائلة، ولا ترسانتها العسكرية الضخمة، ولا طاقتها العلمية والتكنولوجية المخيفة فحسب، وإنما كل هذه العوامل مضافاً إليها ما تملكه من أسلحة ناعمة لم تتح لأي بلد من قبل. ويمكن تحت قائمة الأسلحة الناعمة أن نضع أشياء كثيرة لئن افترضنا أن الصين تملك بعضها، فإنها ليست قادرة على اكتساح العالم والتأثير في حياة من يسكنون كوكب الأرض. فعلى سبيل المثال كم مليون شخص خارج الصين يتحدثون الصينية أو يشاهدون الأفلام والمسلسلات الصينية، أو يتابعون أخبار ما يجري في الصين لحظة بلحظة، أو يتعاملون باليوان الصيني وبطاقات ائتمان صينية المصدر في تجارتهم وسياحتهم ومشترواتهم، أو يضعون أموالهم في مصارف صينية، أو يستثمرون في بورصة بكين وشنغهاي بدلاً من بورصة نيويورك، أويترددون على سلسلة مطاعم صينية؟ دعك من مسألة أخرى في غاية الأهمية كانت وراء وصول الولايات المتحدة إلى ما وصلت إليه، وهي الشفافية وحرية التعبير والإعلام الحر والمجتمع المفتوح، وهذه أيضاً تفتقدها الصين.

 

 

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف