لا تكرهوا الشعوب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
حمد المانع
رجاء لا تكرهوا الشعوب، لا تتبعوا قطعان السوقة وحدثاء الأسنان التي تجري لخوض كل مشتمة على مواقع التواصل مع شعب من الشعوب إثر كل خلاف رياضي أو سياسي بين بلدين، ربما انتهى في اليوم الذي يليه، وبقيت عاصفة التلاسن قائمة بين الشعوب..
ثق أن الملايين حولك في العالم يعيشون مشاكلك نفسها لحظة بلحظة، ويواجهون جميع ضغوط الحياة التي تواجهها، الأشقاء والأصدقاء، وأيضاً الأعداء، الملايين يبحثون عن سقف يأوون إلى ظله من هجمات موعد الإيجار السكني المستحق عليهم، ذلك السيف المسلط على رقاب الجميع..
الملايين يبحثون عن عمل أو مورد للدخل.. الجميع يعانون فقدان الأمان الوظيفي ويبحثون الخطط البديلة بعد الاستغناء المحتمل عن وظائفهم، وربما إغلاق الشركات التي يعملون بها.. الملايين يضطرون لفتح حاسبات هواتفهم كثيراً للاطمئنان على أن مبلغ الراتب الشهري سيكفي لتغطية نفقاتهم إلى يوم استحقاق الراتب الجديد.. الملايين يقتطعون من قوتهم لسداد أقساط مدارس أبنائهم، وتأمينهم الصحي، وتوفير المال لتنقلاتهم وألبستهم وما تيسر من وسائل الترفيه ليدخلوا به بعض البهجة على قلوب صغارهم.. الملايين يعيشون القلق على مستقبل أبنائهم في ظل عالم تعصف به النزاعات والحروب والاضطرابات والاضرابات والهزات الاقتصادية التي لا تميز بين دولة غنية وفقيرة في عالم أصبحت السمة الغالبة عليه التقلبات الاقتصادية والسياسية.. الملايين يعيشون هواجسك نفسها، وقلقك نفسه، ومخاوفك نفسها.. الملايين يجلسون آخر الليل في غرف نوم أطفالهم يراقبونهم ويغمضون أعينهم على ملايين الأحلام المتشابهة تشترك فيها شعوب بينها شعوب عدوة، مع أنهم شركاء في كل شيء، شركاء في الحلم والأمل.. شركاء في المخاوف والأرق والقلق.. الأشياء نفسها تهددهم، والأشياء نفسها تسعدهم.. شركاء حتى في صالة الطعام في الفندق الذي يمضيان معاً فيه إجازة نهاية العام في أحد المنتجعات حول العالم، يجلس كل منهم ملتصقاً بالآخر في عربة المترو التي تنقلهم في جميع عواصم العالم التي تقصدها الشعوب.
رجاء لا تكرهوا الشعوب، لا تتبعوا قطعان السوقة وحدثاء الأسنان التي تجري لخوض كل مشتمة على مواقع التواصل مع شعب من الشعوب إثر كل خلاف رياضي أو سياسي بين بلدين، ربما انتهى في اليوم الذي يليه، وبقيت عاصفة التلاسن قائمة بين الشعوب. ما أكثر الخلافات التي أفسدت العلاقات بين شعوب على مدار التاريخ، نتيجة لهذه العصبيات العاطفية التي لو أخضعناها لميزان العقل لتبخرت في ساعتها، والأعجب من هذا أن تجد أحد الحمقى في عصرنا هذا يحدثك على أزمة تاريخية بين شعبين، وقعت قبل مئات الأعوام ليحيي بها عداوة جديدة بين شعبين لم يشهد أي منهما وقائعها القديمة، ولا تربطه بها رابطة، وربما أن شطراً كبيراً من هذه الشعوب لم تكن جذوره من البلدين العدوين التاريخيين.
يقول سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير). صدق الله العظيم. لكن الناس ذهبوا في اتجاهات أخرى، تفسد عليهم التعارف والتآخي، إلى العداوة والتعصب للأعراق والقوميات، والصراعات التي نشاهدها اليوم، لكن يبقى الأسوأ فيها جر الشعوب إلى أتون هذه المحارق، وضرب أسافين العداوة بين مواطنين عاديين؛ الأصل فيهم أنهم شركاء في هذا العالم، يواجهون الضغوط نفسها، والأصل فيهم أن يتعاونوا لتخفيف وطأتها عليهم، لا أن يزيدوا الضغوط على أنفسهم بتوسيع هوة الخلافات، فخلافات الساسيين والرياضيين لا دوام لها، وتقوم على المصالح المتبادلة وتنتهي وفق تفاهمات تراعي مصالح الطرفين، أما خلافات الشعوب فتتحول إلى شروخ تتعمق وتتسع مع الوقت، وتترك أجيالاً عدوة لا تعرف سبباً واضحاً لعداوتها، فقط ميراث نفسي تركه لهم الأجداد لا يعرفون هوية جذوره، فقط يعرفون أنهم أعداء، رغم مئات المصالح التي تربطهم، ورغم مئات القواسم المشتركة بينهم، ورغم مئات المخاوف التي يشتركون فيها، لكنهم بدلاً من أن يتعاونوا في الخلاص منها والتصدي لها، يزدادون ضعفاً في مواجهتها، بعد أن أصبح كل منهم خطراً إضافياً على الآخر.