قاسم أمين لم يندم على دعوته بتحرير المرأة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عبدالسلام الوايل
يشهد المجتمع السعودي تغيرات اجتماعية متلاحقة ومثيرة نرى فيها انطلاق قوى اجتماعية من عقالها. وتمثل المرأة إحدى هذه الفئات، حيث تحمل الأخبار يوماً بعد آخر شواهد على إقبال حيوي للمرأة السعودية على التقدم بحماس إلى الصفوف الأمامية في المشاركة الاجتماعية. وربما أن كثافة إقبال المرأة السعودية على مواكبة هذه التغيرات والدأب المتواصل لها على إظهار صورة جديدة لها كذات مستقلة وجديرة بالثقة أزعجت بعض القوى الاجتماعية القلقة مما يحمله المستقبل من نذر تغير عميق في توزيع المكانات والأدوار بين الجنسين. وكالعادة تجابه هذه التغيرات بخطابات الترهيب مما تحمله التغيرات الجديدة من «شر يجلب حسرة وندامة».
كان أحد أوجه آلية الترهيب هذه نصاً طويلاً عن المآلات البائسة لـ«تحرر المرأة» في بعض المجتمعات العربية وصلني على تطبيق الواتس. كانت رسالة واتسية طويلة كُتِبَتْ من أجل التحذير من مغبة «خلع الحجاب»، ومن الواضح أن المقصود بالحجاب هو النقاب فقط، إذ اعتبرت الرسالة أن الظهور الشهير للشيخ أحمد قاسم الغامدي مع زوجته، والذي كانت فيه كاشفة الوجه والكفين مع ستر كامل لباقي الجسد، اعتبرت ذلك الظهور أحد أوجه «خلع الحجاب». تضمنت الرسالة سرداً لكيفيات بداية نزع الحجاب في جُل المجتمعات العربية. وكان من أغرب ما تضمنته الرسالة الربط بين كل من تخلي النساء عن الحجاب وبين التدهور التنموي لهذه المجتمعات، فـ«التغريب في مصر وتونس والعراق والجزائر (كان) يسير بالتوازي مع انهيار اقتصادها حتى وصلوا إلى حالهم الآن، حيث معاش المدرس لا يصل إلى 400 ريال في الشهر». وهي محاججة متهافتة، إذ يمكن لصاحب رأي معارض أن يقيم ربطاً معاكساً، كأن يربط بين انتشار الحجاب والتدهور الاقتصادي لهذه المجتمعات، فقد كان السفور أكثر انتشارا في هذه المجتمعات في الفترة ما بين عشرينات القرن العشرين حتى سبعيناته، فيما شهد الحجاب عودة مع عقد الثمانينات. وكانت اقتصادات تلك الدول أفضل نسبياً في الفترة الأولى مما آل إليه الحال في الثانية.
غير أن أغرب ما تضمنه النص أعلاه مادة مثيرة تفيد بتراجع أشهر الرواد العرب لتحرير المرأة، أي قاسم أمين، عن دعواه في مقابلة صحفية تُعزى إليه. وتقول الرسالة إن قاسم أمين ندم بعد كتاباته المنادية بتحرير المرأة، وإنه قال بعد ذلك «أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما رأيته من فساد أخلاق الرجال وأخلاقهن بكل أسف». وبالبحث عن هذا القول في محرك البحث جوجل وجدت أن ما ذكر أعلاه جزء من نص أوسع يُنسب لقاسم أمين في مقابلة له مع جريدة «الطاهر» المصرية نشرت في شهر أكتوبر من سنة 1906 يقول فيها: «لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الإفرنج في تحرير نسائهم، وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق الحجاب وإشراك المرأة في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم، ولكن أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس، فلقد تتبعت خطوات النساء من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن، وماذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات، فرأيت من فساد أخلاق الرجال وأخلاقهن بكل أسف ما جعلني أحمد الله أنه خذل دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتي.. رأيتهم ما مرت بهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا عليها بألسنة البذاءة، وما وجدت زحامًا فمرت به امرأة إلا تعرضوا لها بالأيدي والألسن»!
وبوضع كل من «قاسم أمين» و«الطاهر» في محرك البحث جوجل اتضح أن المقابلة منوه عنها في مقال منشور في العدد 137 من «المجلة العربية» (جمادى الآخرة، 1409). ونظراً لقدم عدد المجلة وعدم إمكانية الحصول عليه في الإنترنت، فقد تواصلت مع رئيس تحرير المجلة العربية الإستاذ محمد السيف مستفسراً عن إمكانية الحصول على العدد، ووجدت منه تجاوباً سريعاً. وبالرجوع للمجلة، وجدت مقالاً لسيدة اسمها «هيام فتحي دربك» بعنوان «المجلة العربية تكشف هذا السر... قاسم أمين يتنصل من دعوته إلى السفور ويقول...». وطفقت أبحث في اسم كاتبة المقالة فلم أعثر لها إلا على بضعة مقالات منشورة في كل من «المجلة العربية» و«المنهل» السعوديتين. فانتقلت أبحث باسم الجريدة، «جريدة الطاهر» هذه، فلم أعثر لها على أثر. إلا أنني عثرت في الكتاب المرجعي للصحافة في مصر، الموسوم بـ«تطور الصحافة المصرية 1798-1981» لإبراهيم عبده، على جريدة كانت تصدر في مطلع القرن العشرين باسم «الظاهر»، يصدرها محامٍ ووفدي شهير هو محمد أبوشادي، والد الشاعر أحمد زكي أبو شادي. وبالفعل ومع تغيير «الطاهر» إلى «الظاهر» وجدت انتشاراً واسعاً في مواقع الإنترنت للمقابلة أعلاه. وبتتبعها وجدتها مأخوذة عن الكاتب الإسلامي أنور الجندي. وقد أوردها الأستاذ الجندي في عدة مؤلفات له، كما هي عادته. ولقد نشر ما كتبه عن تراجع قاسم أمين بداية في كتابه «رجال اختلف فيهم الرأي»، ثم أعاد نشر نفس المادة في كتابه «جيل العمالقة والقمم الشوامخ في ضوء الإسلام»، ثم في كتابه ذي العشرة مجلدات «مقدمات العلوم والمناهج». وبرغم ضخامة كل من الكتب أعلاه، يزيد الكتاب الأخير مثلاً على الستة آلاف صفحة، وضخامة ما تضمنته من ادعاءات بحق عشرات من أعلام الثقافة العربية وكتابها ومدراسها واتجاهاتها بأنهم مجرد صنائع للاستعمار، وأدوات لمؤامرة الغرب علينا، ومرددين لكتابات المستشرقين، فإنه لا يوجد في أيّ من الكتب أعلاه ثبت للمراجع، ليسهل على القارئ معرفة أين وردت المعلومات المُساقة في النصوص. وهذا هو دأب أنور الجندي في التأليف. ويكفي لإيضاح الروح التي تحركه في الكتابة تأمل أحد العناوين أعلاه، أعني كتاب «جيل العمالقة والقمم الشوامخ في ضوء الإسلام». فـ«ضوء الإسلام» المزعوم ليس إلا انطباعات وادعاءات أنور الجندي عن هؤلاء الأعلام والتراث الذي خلفّوه.
وعموماً، عثرت على مصدرٍ مختلفٍ للمقابلة المذكورة أورده الأستاذ محمد أسعد طلس في كتاب له بعنوان «محاضرات عن الشيخ عبدالقادر المغربي». والمغربي هذا شيخ وأديب ونهضوي سوري عاصر قاسم أمين، وأقام في مصر فترة من الزمن، ونشر عددا من المقالات في جريدة الظاهر المشار إليها أعلاه. وينقل طلس عن كتاب للمغربي معنون بـ«كلمتان في السفور والحجاب» مقالة كان نشرها المغربي في جريدة الظاهر في 11 أكتوبر 1906، أي في نفس الشهر الذي نُشرت فيه مقابلة قاسم أمين، يقول فيها:
«كنت بالأمس أتجول في شوارع القاهرة وأدخل حوانيتها ومخازنها وأنتاب منتزهاتها وحدائقها، فأجد من تبرج النساء وتبذلهن ومحادثتهن للرجال وعدم التزامهن حدود الشرع ما كان يذكرني بما كتبه العالم الفاضل قاسم بك أمين في كتابه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، من أن هذا الحجاب الذي عليه عامة نساء المسلمين ليس بالحجاب الشرعي، فلا ينبغي الاحتفاظ به، وإنما علينا الرجوع إلى ما قرره الشرع في ذلك لكنه -حفظه الله- كان يصور الحجاب الشرعي بما عليه الآن نساء أوروبا وأمريكا، وقد وصف من أحوالهن ومخالطتهن للرجال ما يشعر باستحسانه له وتمنِّيه لنسائنا مثله، حتى هاج عليه الشيوخ والمتعصبون، مع أن الحجاب الشرعي هو واسطة بين الحالتين، ليس فيه التبذل والتعرض لمثارات الفجور وما هي عليه الحالة في نساء الغرب، ولا يحول بين المرأة وبين رقيِّها وإعدادها لأن تكون زوجا وأما ومدبرة منزل، كما هي عليه حالة نسائنا لهذا العهد. ومهما يكن فإن المؤلف «الأمين» إنما يرمي إلى نشل المرأة المسلمة من هوة الجهل التي سقطت فيها منذ قرون... كنت أفكر في هذا الموضوع وأذكر في نفسي ما كان كتبه قاسم بك وفصله تفصيلا شافيا، وإذا بي أقرأ من جريدة الظاهر نقلا عن جريدة «الإسكندرية» مقالا طويلا للمومأ إليه (أي قاسم أمين) يقول فيه: إنه عدل عن رأيه في مسألة الحجاب، وسحب كلامه في دعوة الأمة إلى تحرير المرأة، فرجعت وخفت أن يكون أدرك ذلك الفاضل شيء من الخور وضعف العزيمة. فأخذ يعتذر للشيوخ والمتعصبين، ويتنصل من ما كانوا اتهموه به من قبل، وقلت إن كان شأنه كذلك فيكون من جملة مصاب الأمة برجالها وقادتها الذين نرجو الخير من قبلهم... لكن لم ألبث في ثاني يوم حتى قرأت ما كتبه حضرته في إنكار ذلك المقال والبراءة منه، فسررت، ورأيت كل ذلك فرصة حسنة أغتنمها في رجاء الفاضل قاسم بك أن يتحفنا بكتاب في المرأة يكون ثالث القمرين، وشاهدا لصاحبه بالحسنيين». ويتضح مما كتبه عبدالقادر المغربي أن جريدة الظاهر نقلت من جريدة الإسكندرية مقابلة مزعومة مع قاسم أمين يقول فيها بندمه على دعوته لتحرير المرأة، وأن قاسم أمين نفى في اليوم التالي لنشر جريدة الظاهر المقابلة نسبة المقابلة له، أو أنه ندم على إطلاقه دعوته الشهيرة. بوضوح، أصل الحكاية كله خبر مكذوب على قاسم أمين نفاه هو بنفسه، ونشر نفيه في اليوم اللاحق لنشر الخبر المكذوب.
ولست أدري ما هو مصدر أنور الجندي؟ هل كان نسخة قديمة من جريدة الظاهر، أم كان مصدراً ثانوياً، كأن يكون كتاب المغربي دله على المقابلة المزعومة؟ وإن كانت الجريدة ذاتها هي مصدر الأستاذ الجندي، فهل اطلع على النسخة المتضمنة المقابلة المزعومة، ولم يطلع على عدد اليوم التالي الذي تضمن نفي قاسم أمين لتراجعه وندمه؟
المثير في الأمر هو تكرار ذات الظاهرة، أي الزعم بتقويض مدارس فكرية أو اتجاهات نظرية أو أساليب حياة قائمة لمجتمعات أخرى بناء على ادعاءات يظهر بالتتبع عدم صدقها. ذكرتني الحكاية كلها بتتبع د. حمزة المزيني للاستفتاء الفرنسي الذي نشرته الدكتورة نوال العيد، وذكرت فيه أن مجلة فرنسية اسمها «ماري مكير» قد أجرته على 2.5 مليون فتاة، وأن 90% منهن تمنين الزواج من عرب، ليتضح للدكتور حمزة وبعد بحث مضنٍ أن أصل هذا الاستفتاء مربع مضاف لمقال منشور في مجلة «الاعتصام» المصرية الإسلامية التوجه، أي أن محرر المجلة أضافه دون ذكر أي مصدر للخبر المزعوم. يُذكر أن الدكتورة نوال العيد استقت «معلومة» الاستفتاء من رسالة دكتوراه! أي أن ادعاء لمحرر مجلة بدون أي سند تم الاستشهاد به كخبر مستوف شروط الصدق في رسالة دكتوراه، ليتم الاستشهاد به لاحقاً في كتاب نال جائزة. يذكر أيضا أن أحد كتب أنور الجندي المتضمن دعوى ندم قاسم أمين منشور بواسطة دار الاعتصام، وكثير من مواد ذلك الكتاب عبارة عن محاضرات للجندي في ندوات تقيمها الدار، أو مقالات تنشرها المجلة الصادرة عنها.
وللإيضاح، لم يكن دافعي لهذا التتبع، ثم كتابة المقالة، تصحيح معلومة خاطئة في أدبيات تاريخ الفكر. فالأعمال المكتوبة التي اطلعت عليها قبلاً، والتي تناولت قاسم أمين وإنتاجه لم تتضمن شيئاً عن تراجع له؛ بمعنى أن هذه التوبة المزعومة ليست من صلب أدبيات تاريخ الفكر. إنما كان دافعي هو ما يمكن أن أسميه «التوظيف المجتمعي لمعلومة خاطئة»، وهذا جزء من اهتمامي الأكاديمي. ففيما تخلو أدبيات تاريخ الفكر من هكذا معلومة، فإن لها تداولاً مجتمعياً واسعاً. إذ وجدها محرك البحث جوجل منشورة في أكثر من 400 موقع. كما أن هناك عشرات التغريدات عنها. ولم ألحظ في كل ما راجعته في هذا
التداول الواسع تصحيحاً واحداً لهذه التوبة المزعومة، إلا تشكيك «سليمان الخراشي» بها، من منطلق أن قاسم أمين لا يستحق شرف التوبة. بتعبير آخر، يتم تداول الندم المزعوم لدى عموم الجمهور بقصد المحاجّة بعدم صوابية خيار التغير في المكانة والأدوار الاجتماعية للمرأة. تُضاف حكاية قاسم أمين لتوسِّع من قاعدة البيانات الوهمية «كيسيبيديا» الواسعة الاستخدام مجتمعياً، لنكون، مرة أخرى، أمام صروح من الوقائع والمقولات تُشيّد على أسس واهية يسهل تتبعها وتبيان زيفها.