جريدة الجرائد

ترنح الخبراء في زمن السوشال ميديا

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

 صالح الديواني   

 المعلومات المنقوصة ستكون محبطة للتوقعات البشرية التي قد يطلقها «الخبراء»، وهو ما يعني تضاؤل احتمالات الإبقاء على الألقاب العلمية بقدر المستوى والمكانة نفسيهما

كثير من الناس يعتقد أن إحدى إشارات لقب أكاديمي تعني «الخبير» المُلمّ بتخصصه في شيء ما، وقدرته على تحليل البيانات وإعطاء الحلول الناجعة بنسبة كبيرة جدا. 
لكن ذلك في الواقع بدأ يتصدع ويتهاوى، مع دخول المجتمعات على خط العلم بالأشياء التي كانت من قبل حكرا على الدارسين في المستوى الأكاديمي. 
وللتعرف إلى أصل اسم أكاديمية التي يشتق منها اللقب أو المستوى الأكاديمي في التعليم، سنجد قصة مختلفة لا علاقة لها بالتقييم العلمي. 
فالقصة التاريخية -حسبما روى الدكتور اللاهوتي الأميركي «آر سي سبرول» في إحدى محاضراته- تقول: إن الفيلسوف اليوناني أفلاطون أراد أن يبني مُجمّعا لتعليم الفلسفة والعلوم، ولكنه كان يبحث عن ممولين لبناء صرحه العلمي، فاستعد أحد أغنياء أثينا بالأرض التي كانت جزءا من بستان له والإسهام في البناء، وكان يدعى كاديموس أو كاديميس، وبعد أن ارتفع البناء أطلق عليها «حدائق أكاديميس أو أكاديموس»، ومن هنا اُشتُق لقب أكاديمي. على الرغم من أن الشخص المنسوبة إليه تسمية الدرجة العلمية ليس على قدر كبير من التعليم، لكنه فقط كان محبا للعلم.
اليوم، يظهر لنا كثير من الموازيات لأكاديمية أفلاطون، تلغي مفهوم تفاوت التعليم والدرجات العلمية، ولنأخذ مثلا تأسيس محرك البحث الواسع Google، الذي يعود تأسيسه إلى مؤسسيه لاري بايج، وسيرجي برين، في 4 سبتمبر 1998، وحمل المحرك أولا اسم «Pak Rap»، ليتم تغييره لاحقا إلى «Googol»، وهي التسمية التي تطلق على الرقم الكبير ذي الـ100 صفر، ولتجنب الوقوع في مأزق الملكية الفكرية، قررا تغيير تسميته إلى «Google» ليتحول خلال عقدين إلى أضخم أيقونة للبحث والدلالة والتعلم.
ومع التغيرات الجذرية لمفهومي التعليم والتعلم، أصبح الجميع تقريبا على مسافة واحدة من الفرصة التعليمية، باستثناء أن المؤسسات التعليمية تحاول التمسك بحق منح الشهادة ومستواها العلمي. 
لكن المشهد يقول، إن الجميع بات يحصل على المعلومة الخاصة في غمضة عين، فضلا عن المشاركة في صنع ألوان لوحة المشهد وخطوطها. وبات الذين يُنظر إليهم على أنهم خبراء «أكاديميون» ولا يمكن الاستغناء عنهم، أمرا قابلا للمراجعة، بعد أن كشفت السوشال ميديا محتوى الحقائب التي يحملونها، وأصبح تصنيفها في إطار الممكن والعادي، وقد أسهم في هذا الوضع توسع مدارك الإنسان البسيط، عطفا على الوفرة المعلوماتية التي مكّنته من إدراك جوانب كثيرة، بين سبب حدوث الأشياء وتأثيرها وتوقع انعكاساتها.


في السابق، حصل المتنفذون حول العالم على النخب المتعلمة تعليما مميزا، ليوسعوا من نفوذهم في العالم على نحو ما، وهو ما جعل البيانات وتحليلاتها في يد النخبة فقط، لكنهم اليوم يواجهون مأزقا كبيرا بموازاة التحولات الهائلة للعالم، والتي فتح أبوابها التطور التكنولوجي، وباتت الاستكشافات والتنبؤات بما يمكن أن يحدث، أمرين في غاية الصعوبة. فالدراسات المتلاحقة والمتتالية، والتي لا تكاد تتوقف في معظم مناحي الحياة، تحولت هي ذاتها إلى نوع من الإرباك للمجتمعات والاكتشافات نفسها!. وهذه نتيجة متوقعة لهرولة المجتمعات العلمية إلى إيجاد مفهوم موحد للمعرفة للإجماع عليه، لكنني أرى أن المتغيرات العظيمة في العالم التي أنتجتها التكنولوجيا تصر على إلغاء الفكرة من أساسها، فقد تمكّنا بفضل التكنولوجيا من تقليص الخسائر، وتوقُّع المخاطر المحتملة على نطاق بشري واسع، أوصلنا إلى القدرة على توقع حدوثها على الأقل، نتيجة التراكم المعرفي الذي تضخم إلى آلاف المرات، وكلما ازداد ذلك التراكم ازداد معه -وبعلاقة طردية- إدراكنا لما لا نعرفه حتى في ظل عدم وجود من نعتقد أنهم «خبراء»، فكل معرفة جديدة تعني خبراء من نوع مختلف.
المشكلة في هذا المشهد، تتمثل في ازدياد الغموض بموازاة التطور الدائم، وهو نتيجة طبيعية لدخول الشائعات والمعلومات المغلوطة التي يقف خلفها مستفيدون من نشرها، ويتوجب الآن لكل من أراد التمتع بلقب أكاديمي، أن يبذل جهدا مضاعفا جدا، يتمثل أولها في تغيير طريقة التفكير في الأشياء، وسبل الحصول على المعلومة بسرعة ودقة معا. 
فثمة خيط رفيع الآن بين قوة الخبراء السابقة في إصدار الأحكام على الأشياء، وبين سرعة التقنية الخاطفة التي قد تودي بكل أحكامهم وأطروحاتهم في طرفة عين إلى المجهول وعلامات الاستفهام، وبالتالي فإن مفهوم الخبير الأكاديمي بات «على كف عفريت» كما يقول المثل. 


فمسارات المستقبل متعددة ومفتوحة الآن، والمعلومات المنقوصة يمكن سد فجواتها تباعا وسريعا، وقد تحتمل الصواب والخطأ بنسبة أعلى، والمعلومات المنقوصة ستكون محبطة للتوقعات البشرية التي قد يطلقها «الخبراء»، وهو ما يعني تضاؤل احتمالات الإبقاء على الألقاب العلمية بقدر المستوى والمكانة نفسيهما، لذلك أظن أن علينا رصد النتائج أكثر من توقعها، فطاولة الأفكار تبدو الآن مشتركة بنسبة كبيرة أكثر من أي وقت مضى، وقد أظهرت الأيام أن بمقدور فتى صغير يقعد خلف شاشة صغيرة، أن يتفوق في مجال عمل ما كان حكرا على من نطلق عليهم لقب خبراء أكاديميين.
 

 

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف