أبعد من تصريحات «أبي مازن» غير الموفقّة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
مرزوق الحلبي
لا أعرف ما هي حاجة رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية إلى طلاق تصريحات تتصل بالتاريخ اليهودي القريب في أوروبا واتهام اليهود أنفسهم بالتسبّب بمحرقتهم أو بتواطؤ مع الحكم النازي؟ ولماذا هذا الاشتغال الهجاسي بمسألة حارقة كهذه طالما أن الرئيس نفسه كان تعامل معها بشكل مختلف ومسؤول في مرات سابقة؟ وسؤال آخر يؤرّقني وهو هذه العودة غير الناجحة أبدا إلى التاريخ عن أصول اليهود الأشكناز؟ ماذا يُمكن لحديث كهذا أن يقدّم أو يؤخّر في مسألة الصراع مع إسرائيل الرسمية ومع مجتمع المهاجرين اليهودي في فلسطين التاريخية، خاصة وأننا نعيش ما بعد مسار تفاوضي، أفشله الإسرائيليون بالكامل، وبعد ساعات وأيام من لقاءات أبي مازن نفسه مع قيادات إسرائيلية من كل صنف ونوع، سعياً إلى مخرج من دائرة الصراع؟ أعتقد جازماً أنها شطحات غير موفّقة للرئيس في أقلّ تقدير وتحمل الأذى للرواية الفلسطينية ومطالبها، ناهيك بأنها غير مسنودة بأدلّة وتستند إلى المزاج والانفعال والغضب، والمشروع الفلسطيني ليس مزاجاً ولا مجرّد انفعال.
ومع هذا أقدّر مصدر هذه الشطحات. إنها وليدة حالة من انسداد الأفق فلسطينيا. وأكثر، هي وليدة غطرسة إسرائيلية ونزعة استحواذ متجددة تسعى إلى فرض سيادة إسرائيلية تامة على أرض فلسطين التاريخية من البحر للنهر. مقابل هذه النزعة هناك إغراء للفلسطيني أن يذهب إلى نزع شرعية الوجود اليهودي في فلسطين وصولاً إلى هزّ كل الشجرة التي يقف عليها هذا الوجود. ومن هنا هذه الظاهرة غير المحصورة في الفلسطينيين، التي تحاول أن تدحض وجود شعب يهودي بالأصل، أو تلك التي تُشكّك في المحرقة وقصّتها والأرقام التي تتداولها الصهيونية الرسمية بخصوص ضحاياها. نزعات فلسطينية تخبو أو تزهو على وقع الصراع، وهي في راهنها تعكس أزمة في الفكر الفلسطيني وفي المشروع الوطني وفرضياته وفي الأداء على أعلى المستويات.
أساس العلّة هو غياب «لُغة فلسطينية» جديدة بقواعد ومُفردات جديدة تناسب الوقائع والتحولات فلسطينياً وصِراعياً وإقليمياً. تأكيد خيار السلام لم يعد كافياً وكذلك التأكيد على خيار اللاعنف أو خيار التفاوض. كل حديث من الآن فصاعداً يستدعي تفكيكاً للمنظومة السياسية التي تطوّرت بعد فشل أوسلو ومسار التفاوض واضمحلال إرث قرار التقسيم القائل بحلّ الدولتين. فكرة السلام في شكلها الخام لا تكفي لمخاطبة الإسرائيليين ولا العالم. صحيح أن هناك ميلاً للإبقاء على فكرة الدولتين لأنها تخدم المملكة الأردنية وتمنع زعزعة الأمور فيها، وصحيح أن الأوروبيين وغيرهم لا يزالون على ميلهم لهذا الخيار، وصحيح أن هناك قوة استمرار في تكرار الكلام ذاته والأفكار ذاتها ضمن فرضية تقاسم فلسطين التاريخية، لكن ما العمل ما دامت الوقائع والتحولات تفرض حاجة إلى قولٍ آخر وتفكير آخر؟!
لقد ألغت إسرائيل الرسمية الخط الأخضر بشكل شبه نهائي أو هي في طريقها إلى إلغائه علناً بعد أن كانت ألغته في السنوات الأخيرة فعلاً. حدث هذا تزامناً مع سيرورة موازية لإلغاء الشقّ الديموقراطي في تجربتها ونظامها الذي ضمن حتى الآن هوامش وحريات سياسية (داخل إسرائيل) لمناهضة الاحتلال أو ضم المناطق أو شنّ حرب أو تنفيذ تطهير عرقي بحق الفلسطينيين. لهذا التزامن في السيرورتين دلالاته بالنسبة إلى وِجهة النظر والسياسة في إسرائيل الرسمية. وهو ما ينبغي أن يدفع الفلسطينيين إلى تعديل لغة الصراع من جانبهم وإعادة بناء مشروعهم السياسي الوطني.
ما أقترحه هنا هو اعتبار ما يحصل في إسرائيل «كولونيالية مُستأنفة» تستهدف وضع اليد على الشق شبه المحرّر من فلسطين التاريخية وإغلاق الباب نهائيا على حل الدولتين. وبهذا لا يكون الوجود الإسرائيلي في الضفة مثلاً آخر احتلال في القرن الحادي والعشرين بل وجودا كولونياليا ونظام أبرتهايد عنصري. وعندها لا يكون الحلّ بطرد اليهود أو مقاتلتهم حتى آخر طفل فلسطيني ولا بإنكار وجودهم هنا أو محرقتهم التي صممت هويتهم الحديثة وعلاقاتهم بالعالم، بل يصير النضال ضمن مشروع وطني فلسطيني لتفكيك المنظومة الكولونيالية الإسرائيلية (وهذا يعني في طياته تحرير إسرائيل من ذاتها العدوانية) على نسق التجارب المشابهة في العالم وآخرها جنوب أفريقيا. والهدف إنشاء نظام سياسي بين البحر والنهر في مؤدّاه إحقاق حقوق الفلسطينيين الفردية والجماعية في إطار مصالحة تاريخية بين المجتمع الوافد المهاجر إلى فلسطين، ولتكن روايته ما تكون، وبين الفلسطينيين بوصفهم أهل البلاد الأصليين.
هذا هو السيناريو المستحبّ، لكن الأمور لا تسير وفق ما نحبّ خاصة وأن الجانب الإسرائيلي المتفوق على الأرض سيستغلّ تفوقه من أجل فرض سيناريوهات مستحبّة له تمنحه امتيازات وأفضلية كما هو الحال الآن. بمعنى أنه سيحاول تطوير الوضع القائم ودحرجته لتحقيق مزيد مما حقّقه حتى الآن. هذا ما سيحصل في الأمد المنظور ـ ويحصل فعلاً، بين البحر والنهر. وهذا وحده يستدعي قبل كل شيء الحديث عن شعب فلسطيني ومشروع فلسطيني واحد على هذه المساحة. وهو ما يعني توحيد القيادات في المساحة المذكورة حول إرادة جماعية واحدة ومشروع واحد. فلا يكون هناك «الفلسطينيون في إسرائيل» و «الفلسطينيون في مناطق السلطة» وغيرها من تسميات ومنظومات سياسية وفكر سياسي يُقسّم الشعب الفلسطيني إلى مناطق ومجموعات تعيش عمليا في معازل مُحاصرة بالسياج أو القانون أو القوة مُجزّأة ومفصولة عن بعضها سياسياً وذهنياً من دون أي مشروع وطني جامع. وفي هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى أن «حل التقسيم/ الدولتين» لم يعد جامعاً بمقدار ما صار فخّاً يجزئ الشعب الفلسطيني ويُهدر طاقاته.
مثل هذه المبادرة من الجانب الفلسطيني، وفيها الكثير من الجرأة والإقدام، تُنهي حال الجمود الفلسطينية وتحوّل الضعف الفلسطيني من جديد إلى قوة سياسية وأخلاقية من شأنها أن تضع الإسرائيليين والأوروبيين والغرب كله أمام مسؤولياته، بخاصة أن لغة الصراع ستتغيّر وكذلك استراتيجياته.