قضية فلسطين وفلسفة النصر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
محمد السعيدي
أكبر نصر يمكن أن يحققه العرب على الكيان الصهيوني هو صناعة مشروع حقيقي لهم تجاهه، فهذا الفقر الحالي في الرؤية المستقبلية وانعدام الإعداد لها يعني تقدم العدو في مشروعه الكبيرخسر الرومان في تاريخهم الطويل والذي يعد من أطول التواريخ السياسية معارك كثيرة كانت بينهم وبين الشعوب والدول التي استولوا عليها، لكن تلك الخسائر لم تحقق اندحاراً للرومان أو إنهاء لمشروعهم التوسعي الكبير، لذلك لا يمكن تسميتها انتصارات على الرومان إلا في سياقها الجزئي والضيق تاريخياً وجغرافيا، ويبقى الرومان هم المنتصرون في النتيجة العامة والسياق الكلي، وكذلك الأمر في جميع الدول التي جاءت بعد الدولة الرومانية بفرعيها الإيطالي والبيزنطي، ومنها الدولة الإسلامية بأطوارها الكبرى المتوالية، الراشدي، والأموي والعباسي والعثماني، وبعدهم التوسع الأوروبي والبريطاني منه خاصة، كلها دول قوية ذات مشاريع توسعية متباينة الظروف والأهداف تعرضت لخسائر عسكرية كثيرة أثناء إدارة مشروعها لكن هذه الخسائر لم تكن تعني لها الهزيمة أو لخصومها النصر.
وبتأمل تاريخ الحروب في العالم نجد أن النصر الجزئي الذي ليس له مشروع كلي ينتظمه غالباً ما يتجاوزه التاريخ، وحين يكون نصراً على أمة أو دولة ذات مشروع فكثيراً ما يكون المنتصر هو الخاسر والمهزوم هو المستفيد الأكبر، والأمثلة التي يمكنها أن تُجَلِّيَ الفكرة كثيرة جداً في التاريخ، لكنني أذكر الأقرب إلى عواطفنا وذاكرتنا في العصر الحديث، وهو انتصار الدول العربية المشاركة في حرب الثمانية وأربعين وذلك في فصلها الأول، فقد كان نصراً حقيقياً بالرغم من قلة عدد العرب المقاتلين في مقابل المقاتلين اليهود إلا أنه اليوم نصر ليس له وزن في التاريخ، وفيما بعد لم يكن له أي تأثير في مسار الأحداث، والسبب في ذلك أن المعركة كانت بين شعب صهيوني قادم بقوة وكل أفراده يحملون هم استمرار وجودهم في فلسطين واغتصاب حقوق غيرهم بالقوة، في مقابلة شعب أصيل في هذه الأرض لم يستوعب المخاطر القادمة، لذلك لم ينهض بكليته واكتفى بِفِرق مناضلة خرجت من ثناياه وظل ينتظر من الدول العربية أن تأخذ له حقه وتعيده إلى مكانه وتسحق عدوه، أما الدول العربية التي شاركت بجيوشها وكانت معقد آمال الفلسطينيين فكانت بين دول ناشئة ودول مستعمَرَة ودول حديثة الاستقلال، ولكل منها مشكلاتها التي تحول بينها وبين اتخاذ قرار حاسم ضد المشروع الصهيوني، الأمر الذي أدى إلى رضوخ تلك الدول لهدنة فرضتها الأمم المتحدة كانت عبارة عن طوق نجاة لليهود استطاعوا بعدها تحقيق النصر الذي لا نزال حتى اليوم نعيش آثاره التعيسة علينا.
ومن الأمثلة أيضا حرب أكتوبر 1973، فقد انتصرت فيها مصر ومن معها من الدول العربية حقاً، ولكنه انتصار من دول غايتها النهائية تحقيق نصر جزئي يحفظ ماء الوجه ويغسل أدران نكسة 1967 المنكرة أمام دولة ذات مشروع وجودي، ولهذا كانت هزيمة الصهاينة عبارة عن درس استفادوا منه أكثر مما خسروا فيه، حتى إن المواقع التي خسروها شرقي القناة لم تكن تعني لهم كثيرا وفق أولوياتهم الإستراتيجية، لدرجة أنهم تنازلوا عما هو أضعافها في معاهدة كامب ديفيد، ثم بعد ذلك لم يعد نصر أكتوبر مؤثراً في المعادلة السياسية العربية الصهيونية.
من هنا نقول: إن البحث عن نصر خارج نطاق مشروع إستراتيجي أمام خصم يملك هذا المشروع ويمتلك أدواته كاملة فإن نتائجه الإيجابية ستظل مؤقتة، ثم تعود الأمور في العلاقة مع هذا الخصم أسوأ مما كانت عليه، لأنه غالبا سيستفيد من تلك الهزيمة الجزئية التي مُني بها عِبَراً يتمكن بالاستفادة منها من سد ثغراته التي كشفها له خصمه.
ويمكنني بصراحة أن أصف العلاقة بين العرب والصهاينة حتى اليوم بهذا الوصف ذاته دون أي تطور، بالرغم من مرور سبعين عاما على أول تماس عسكري بين الطرفين، فلا زال الصهاينة أصحاب مشروع بعيد المدى، وما زال العرب يبحثون عن انتصارات جزئية، والمؤلم: أن طموحاتهم في انتصارات جزئية كانت على الصعيد العسكري، ثم انخفضت إلى التفتيش عن انتصارات معنوية ودبلوماسية، ثم انخفضت لتصبح طموحاتهم منحصرة في الحصول على أفضل صيغة للسلام، مع انعدام بُعْد مستقبلي واضح للسلام في مخيلتهم، فضلاً عن أن يكون هذا البعد مكتوباً أو مُجَدْوَلاً زمنياً.
وليس ذلك مقصوراً على الدول، بل حتى المنظمات المعنية بالقضية الفلسطينية كفتح وحماس، الكل يعاني من انعدام المشروع الإستراتيجي الحقيقي، ويبحث وَحْدَه عن انتصارات جزئية خاصة به، لا ليحقق بها انتصاراً ولو محدودا على العدو المشترك، بل ليحقق بها انتصاراً على من يرى أنه منافس له في خدمة هذه القضية.
وبلغت المأساة في الفراغ من الأبعاد والغايات الصحيحة أن أصبحت فلسطين ورقة لعب يتكسب بها الساسة إما مادياً وإما جماهيرياً، ويضرب بعضهم بعضاً بها في معاركهم البينية كي يُسْقِط أحدهم الآخر، لاسيما حين دخلت ساحة المناقشة في خدمة القضية أطراف غير عربية «إيران ثم تركيا» اللتان تفوقتا بمراحل على جميع الدول العربية، لا في خدمة القضية كما هو المفترض، بل في خدمة المشروع السياسي الضيق لكل منهما، وهما تمتلكان حقاً مشروعين لا يمتان لفلسطين بصلة إلا في كونها بوابة عظيمة للجماهيرية التي يحتاج إليها مشروعاهما، فكلتاهما تغازلان الجماهير بمنديل القضية دون أن تقدما لها شيئا.
وكونهما دولتين تصدران في تعاملهما مع فلسطين عن مشروع، ولو كان سلبياً، فقد حققتا فترة من الزمن تفوقاً جماهيرياً على دول فقيرة في النظرة المستقبلية لقضية فلسطين، وهو مصداق لما حررناه في بداية المقال من الفارق بين الانتصارات الجزئية والانتصارات الإستراتيجية.
وما ذكرناه من الفقر في البعد المستقبلي في التعامل مع فلسطين هو سبب الاضطراب المتكرر في المواقف عند حدوث أي جديد على الأرض كما هو حاصل هذه الأيام، فأقصى ما استطاع الجميع فعله هو مسودة قرار تُقدم لمجلس الأمن، ولقاء وزراء خارجية عرب وقمة إسلامية خطابية وغير مؤثرة على الصعيد العملي.
والسبب في ذلك هو عدم وجود رؤية مستقبلية ومشروع عربي تجاه فلسطين، حتى لدى الفلسطينيين أنفسهم.
الكل يتحدث عن السلام وفق المبادرة العربية فقط، وهذه المبادرة ليست أكثر من حل آني فيما لو وافق عليه الصهاينة، وذلك لأنه يتناقض مع مشروعهم طويل المدى الذي لا يتعارض مع مبادرة السلام فقط، بل يتعارض مع الوجود العربي بالكامل، الشعبي والسياسي، وإذا كانت الدول العربية لا تعي ذلك فهذه مصيبة أكبر.
المهم اليوم أن أكبر نصر يمكن أن يحققه العرب على الكيان الصهيوني هو صناعة مشروع حقيقي لهم تجاهه، فهذا الفقر الحالي في الرؤية المستقبلية وانعدام الإعداد لها يعني تقدم العدو في مشروعه الكبير وهو ما نشاهده فعلا، فليست الفوضى في سورية والعراق وسيناء ولبنان سوى تجهيزات كبرى لإسرائيل الكبرى، وإذا استمر الحال كما هو عليه، وهو الاكتفاء بالمبادرة العربية كرؤية مستقبلية، وانحصار المواقف من العدو الصهيوني في البحث عن انتصارات جزئية على ساحة الرأي العام الأوروبي والعربي أو انتصارات جزئية في المحافل الدولية وهيئات حقوق الإنسان.
كل ذلك لن يجدي شيئاً وستبقى آثاره آنية في مواجهة عدو يعتبر الانتصارات الجزئية لخصومه شيئاً طبيعياً في نطاق معركة طويلة يشتغل هو على رسم نهاياتها.
والسؤال هنا: إذا اتفقنا على ضرورة مواجهة الصهاينة بمشروع إستراتيجي فماذا ينبغي أن تكون معالمه؟
الجواب: تبدأ معالم مشروعنا تتضح حين نؤمن بأن حقيقة الكيان الصهيوني دولة دينية بلباس علماني يحركها سِفْر أستير وسفر يوشع بن نون وتعاليم التلمود المليئة بالحقد والدموية والاحتقار لكل الأجناس المحيطة بهم، والذين ينبغي أخذ أرضهم من الفرات إلى النيل ليحكموا من خلالها العالم بأسره على يد الملك الذي سيهبط عليهم من نسل داود.
هذا المشروع لن يرضى بأي مبادرة سلام ولو كانت تعطيهم فلسطين كلها من النهر إلى البحر.
وما دمنا نجهل هذه الحقيقة أو نتجاهلها أو نُسَوِّف في التعامل معها فلن نستطيع بناء أي مشروع لمواجهتها، وسوف نبقى كما نحن عليه الآن لا نحسن التعامل مع أي حدث جديد يستجد في أرض فلسطين إلى أن يأتي اليوم الذي