نهاية الغرب!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بهجت قرني
هناك مفهومان أساسيان للغرب؛ أحدهما هو الغرب الثقافي، وهو الشائع عندما نتكلم مثلاً عن «العادات أو التقاليد الغربية» للإشارة إلى بعض السلوكيات الذائعة في أوروبا أو أميركا. تتكلم القصص كثيراً حول هذا الغرب المختلف عن الشرق، ويتذكر الكثيرون منا توفيق الحكيم وحديثه عن «عصفور من الشرق»، وهو عمل أدبي يعالج قصة طالب ذهب إلى فرنسا، وهاله أن شباك التذاكر في قاعات السينما تخدم فيها الفتيات، وأنه يمكن للرجل التحدث أو التنزه مع فتاة دون حرج.
أما المفهوم الآخر للغرب، والذي أركز عليه في هذا المقال، فهو الغرب السياسي ومستقبله، خاصة بعد الحرب التجارية التي أعلنها ترامب على جارة بلاده كندا وأقرب حلفاء واشنطن في أوروبا. ولكي نستوعب تأثير سياسة ترامب على مستقبل هذا الغرب، ينبغي أن نعود إلى الوراء بعد الحرب العالمية الثانية لنتذكر أن إنشاء هذا الغرب -أو الكتلة الغربية الرأسمالية في مواجهة الكتلة الشرقية أو الشيوعية- هو أساساً من صنْع أميركا، حين ساهمت بقوة في بناء ألمانيا جديدة بعد هزيمة النظام النازي، وعند انقسام ألمانيا إلى شطرين، حافظت بشراسة على «ألمانيا الغربية» وأرسلت قوات أميركية كدليل على رغبتها في صيانة هذا الشطر «الغربي».
لكن تأسيس الغرب السياسي بأياد أميركية تعدى تأييد بلد أو بلدين ليصبح على مستوى القارة الأوروبية ككل. وإحدى هذه المحطات كان مشروع مارشال سنة 1947، والذي دفعت فيه واشنطن مليارات الدولارات لانتشال دول أوروبا الغربية من عثرتها بعد دمار الحرب العالمية الثانية، ولتنجح فعلاً بلاد مثل فرنسا وإيطاليا في التقدم سريعاً وتصبح قوى اقتصادية تنافس أميركا.
أما المحطة الثانية فهي إنشاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) في سنة 1947 ليصبح درع الغرب في مواجهة الكتلة الشيوعية (الشرقية). ومرة أخرى قامت واشنطن بتحمل الجزء الأكبر من تكاليف هذا الحلف، مالياً وعسكرياً، وظلت تستأثر بقيادته.
ثم جاءت مجموعة «السبع الكبرى» بمبادرة أميركية في السبعينيات، وهي الدول التي تمثل حوالي 62% من الثروة العالمية، أي حوالي 280 تريليون دولار، وأصبحت هذه المجموعة -بقيادة أميركا- شبه حكومة عالمية في المجال الاقتصادي، والذي لا يستطيع تغيير اتجاهه حتى مع ضغط الصين أو روسيا دون موافقة الدول السبع كافة، والتي يشارك في اجتماعاتها أيضاً رئيس الاتحاد الأوروبي.
وهكذا باختصار: لا يمكن تصور وجود الغرب السياسي دون وجود صانعه: المايسترو الأميركي.
ولذا فما حدث الأسبوع الماضي في القمة الـ44 لمجموعة السبع المنعقدة في كندا، يتعدى سلوك دولة وتأثيره على مجموعة دول، لينصب على النظام العالمي ككل. فقد كان ترامب آخر الواصلين إلى هذه القمة، وأول المغادرين قبل نهاية أعمالها بيوم، بل أضاف إلى هذه الرسالة المهينة جواً عدائياً بإعلانه ضريبة على الحديد والصلب اللذين تستوردهما أميركا من هذه الدول الحليفة لها، ودون تنسيق مسبق، وبالتالي أجبر هذه الدول على الرد ليدخل العالم في حرب تجارية على أعلى مستوى، بل غيّر تعهده وأعلن وهو في الطائرة أن واشنطن لا توافق على البيان الختامي وستسحب توقيعها عليه، وهاجم رئيس وزراء كندا (الدولة المضيفة) واصفاً إياه بأنه ضعيف وغشاش وغير أمين، ما جعل معظم الكنديين -حتى من المعارضة- يشتاطون غضباً ويشعرون بالإهانة الشديدة، وهم الشعب المجاور للولايات المتحدة (حتى لكأنه الولاية الـ52 من الفيدرالية الأميركية).
بعد أن صنعت أميركا الغرب السياسي واستثمرت في محطاته الرئيسية من خطة مارشال مروراً بإنشاء «الناتو» ومجموعة السبع الكبرى وغير ذلك من الخطط.. يقوم ترامب بتقويض هذا الغرب. فهل يستطيع هذا الغرب الاستمرار دون واشنطن؟ نحن على أبواب مرحلة خطيرة في النظام العالمي.