الخيارات الاستراتيجية للمغرب على المستوى الدبلوماسي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
بلقاسم الجطاري
شكل المغرب ومايزال، بسبب موقعه الجغرافي، محضن نشاط هجروي لافت، وفضاء نزوح وعبور واستقرار لجماعات قادمة من جهات العالم الأربع. وقد راكم، لهذا السبب، مدخرات ثقافية مركبة أسعفته في تدبير هذه الدينامية، وجعلت من تراثه السياسي والتشريعي والثقافي نموذجا متقدما، لا على المستوى الكمي فقط، بل وعلى المستوى الكيفي كذلك. والشاهد على ذلك قيام معدلات عليا من التعايش بين المغاربة بصرف النظر عن الرافد اللغوي والثقافي الذي تنهل منه شخصياتهم وهوياتهم، وندرة الصراعات القائمة بينهم على أسس العصبات والأصول وغيرها من أشكال التفريع الطائفي، كما جرى، ويجري، بعدد من بلدان العالم المختلفة.
كما شكل البلد، لاعتبارات كثيرة مركبة، مصدر نشاط هجروي أيضا، إذ خرج المغاربة، منذ العهود الغابرة، زائرين ورحالين ومهاجرين صوب جهات العالم الأربع، حينا لغايات اقتصادية، وأحيانا لغايات دينية وعلمية تعليمية، وسياحية، واجتماعية مختلفة. فاستقر بعضهم ببلدان الهجرة، وعاد البعض الآخر إلى بلده، بينما آثرت فئة ثالثة البقاء في وضعية وسطى؛ يتجاذبها هوى مزدوج، يحركه الوفاء لبلاد المنشإ والأصول، ويعززه العرفان بأفضال موطن الاستقرار.
وقد تشكلت في هذا السياق، ومنذ استقلال المغرب إلى اليوم، جالية مغربية كبيرة، توزع معظمها بين دول أوروبا الغربية. جالية لا يخفى أثرها في تحريك العجلة الاقتصادية بالبلد، ولا تخفى مساهمتها في خلق التنمية بجهات المغرب المختلفة، مثلما لا يخفى حرصها على الالتزام بواجبات المواطنة، وسعيها إلى تمثل القيم الثقافية المغربية تمثلا كاشفا عن العراقة والغنى اللذين يميزان هذه الثقافة.
غير أن هذا الإطراء لا يعني أن الجالية المغربية بالخارج تعيش بمنأى عن صعاب الحياة المختلفة، أو أنها معزولة عن أعطاب المجتمعات. إن الناظر في أحوالها يلاحظ وجود إشكالات محدقة بعدد من المهاجرين المغاربة بالخارج، على رأسها إشكال الاندماج وما يتصل به من قضايا التثاقف والممانعة الثقافية والعنف والتطرف. كما يلاحظ الصعابَ التي يكابدها أبناء الجالية في سبيل تمكين أبنائهم من العدة القيمية والثقافية المغربية، في ظل صراعات وتجاذبات ثقافية كبرى، تؤججها المصالح السياسية لعدد من دول العالم.
يأتي هذا المقال، إذا، في قلب مسألة التجاذبات المذكورة، وذلك من خلال اقتراح توفير السند الروحي والثقافي لمغاربة العالم، وتحصينهم من خطاب التطرف، وتمكينهم من الآليات والأدوات التي تتيح لهم التشبع بقيم الإسلام الوسطي، كما ارتضاه المغاربة منذ القدم، مثلما يتأسس هذا المقال، أيضا، على التجربة المغربية في تدبير الحقل الديني، وعلى الأدوار العديدة التي اضطعت بها المؤسسة الدينية، بوصفها فضاء للعلم والتربية، ومحضنا لزرع قيم السلم والحوار، ومنارا لإشاعة السكينة والأمن الروحيين.
البعد الديني:
يتم تقديم النشاط الهجروي، في حالات كثيرة، بوصفه سعيا إلى تحسين ظروف العيش، ورغبة في الحصول على عمل يضمن به المهاجر كرامته. أي بوصفه هروبا من العطالة صوب البلدان ذات الاقتصاديات القوية، التي توفر فرص شغل أكبر، وأجورا أعلى، وظروف عمل، وضمانات اجتماعية أفضل.
للهجرة، على هذا الأساس، وجه اقتصادي رئيس. غير أن هذا الوجه لا يتحقق بمعزل عن وجوه وأبعاد أخرى تملك أثرا شديدا على نوعية الحياة التي يعيشها المهاجر، وجودتها، وعلى رأسها البعد الديني وما يتصل به من شؤون العبادة، إذ تلح المواثيق الدولية على لزوم تمكين المهاجرين من حقهم في ممارسة شعائرهم الدينية، وحماية مقدساتهم، وضمان حريتهم في المعتقد والتعبد.
غير أن حرص دول الاستقرار على تمكين المهاجرين من هذا الحق لا يعفي البلدان الأصلية من المساهمة في تنزيل مقتضياته التشريعية واللوجستيكية والمادية المختلفة (ممارسة الشعائر الدينية أثناء العمل، بناء دور عبادة، مذابح..)، وهنا يكون لزاما على هذه البلدان تقديم الدعم الضروري لدول الاستقبال، ومساعدتها على كافة المستويات والأصعدة (تكوين أئمة، خبرات، مراكز بحثية...)، حتى يتسنى للمهاجرين أداء شعائرهم، والالتزام بالضوابط الشرعية التي ينص عليها دينهم، سواء على مستويات عقدية أم تعبدية أم سلوكية، عامة مشتركة أم مذهبية.
أحد مجالات العمل في هذا الباب، متعلق بوجود تنوع مذهبي (وطائفي) ببلدان المهجر، سببه تنوع الانتماءات القطرية للمهاجرين، فضلا عن وجود تجاذبات واستقطابات حادة في هذا الجانب، تؤججها الصراعات الطائفية القائمة بين عدد من الدول الإسلامية، بل ويذكيها أيضا اختلاف التأويلات التي منحت وما تزال تمنح للنصوص الدينية.
البعد الثقافي:
يحظى هذا الجانب على المستوى الدبلوماسي الديني بأهمية قصوى، لا باعتباره محركا (وهو أمر حاصل طبعا) من محركات الهجرة، ولكن لما يتيحه من إمكانات تدبيرية تمكن الفاعل المؤسسي من تلمس مواطن الإشكاليات الناتجة عن النشاط الهجروي في عموميته.
يسمح الرصد الثقافي للظاهرة بتتبع الأسباب والنتائج وأشكال العلاقات القائمة بين حركيات الهجرة وغيرها من الحركيات السوسيولوجية، كما يمكن الدارس من استشراف مستقبل الحركية المذكورة، ولهذه الأسباب انكبت المؤسسات البحثية بدول الشمال على تفكيك الظاهرة وتتبع آثارها الثقافية المختلفة، بغية إيجاد الحلول اللازمة لمشاكل الاندماج، وتدبير قضايا الاختلاف الثقافي بين الجماعات الوافدة والمستقرة.
لقد أضحى موضوع "صعوبات الاندماج" مثار نقاشات سوسيولوجية وسياسية وإعلامية متزايدة، وخاصة بعد تسجيل عدد من مظاهر العنف داخل محيط استيطان العائلات الوافدة من دول الجنوب، وهي نقاشات قاربت قضايا المثاقفة والتثاقف والممانعة والاندماج والعنصرية إلخ، فيما يمكن اعتباره صدّا علميا حكيما لظاهرة سياسية جديدة بدأ يعرفها المجتمع الأوروبي، وهي ظاهرة صعود أسهم اليمين المتطرف في بورصة الأسعار السياسية.
هذه القضايا واقعةٌ، جبرا لا خيارا، ضمن دائرة مجال الاشتغال ذي الطابع الاستعجالي، لأنها تمس الحياة الاجتماعية للمهاجرين، إذ أن الخيارات التشريعية التي تهم المهاجرين هي جزء من مشاريع سياسية ترفعها الأحزاب والتنظيمات السياسية، وهي قبل ذلك، عمليات تأثير بطيئة تتم أجرأتها عبر الخطابات الصحفية والسياسية التي تمس الناخبين. هي باختصار، عملية ثقافية تتم مباشرتها عبر قنوات متعددة يتم فيها توظيف الكلمة والصورة والرموز ومختلف أشكال التعبير الفنية وغير الفنية.
البعد الحقوقي التشريعي:
يقع الملف الهجروي ضمن دائرة وسطى تتقاطع وسطها مؤثرات وأبعاد عدة، على رأسها البعد الحقوقي التشريعي، إذ يستوجب تعاملا لحظيا واستشرافيا بمحتويات قانونية، تنظم مستويات التدخل القانونية، وتوزع المهام على الهيئات والمصالح والقطاعات، وتعين البنود والمواد والمساطر الواجب اتباعها من قبل الأطراف المتدخلة في كل حال من حالات وجوب التدخل المؤسسي.
واعتبارا للطابع المركب لظاهرة الهجرة، ووجودها في مرمى الانشغالات الحياتية المختلفة، فإن التعامل الحقوقي معها يتطلب اشتغالا وتتبعا مكثفا، لاسيما عندما يتعلق الأمر بوجود مستويات من الاختلاف بين منظومات القيم الاجتماعية الخاصة بالمهاجر، ونظيرتها القائمة ببلد الاستقرار، أو عندما تفرض الهجرة واقعا ديموغرافيا جديدا يستوجب أن تتم مراعاته ومواكبته عن طريق سن تشريعات ملائمة تضمن حقوقا وتفرض واجبات.
لهذا البعد تجليات أخرى كثيرة تستدعي قيام نشاط دراسي وإشعاعي، منها موضوع تطوير العدة التشريعة الكفيلة بضمان حقوق المهاجرين المغاربة غير الشرعيين، وتوفير الدعم البحثي للهيئات المنشغلة بالهم الحقوقي، ولا سيما حقوق المهاجرين المنتمين إلى الفئات الأكثر عرضة للانتهاكات: النساء، الأطفال، ذوي الاحتياجات الخاصة..
من أوجه البعد التشريعي، أيضا، نستعرض موضوع إجراء المفاوضات مع مختلف الهيئات بالدول المستقبلة للمهاجرين المغاربة، سواء في سياق الترافع أمامها دفاعا عن حقوق المهاجرين، أم في سياق البحث عن تسويات قانونية لوضعيات خاصة يفرضها الانتقال الدوري بين المغرب وبلدان المهجر (تعويضات، أجور، تأمينات..).
وإذا كان من المفيد اختزال روح هذا المقال في عبارات موجزة، فهي بالتأكيد رغبتنا الأكيدة في تحسين ظروف عيش الجالية المغربية بالمهجر، وتجويد مساهمتها في تحقيق التنمية بمختلف جهات المملكة، من خلال التأسيس لثقافة تدبيرية مواكبة لمستجدات العصر، حريصة على استدماج الشروط العالمية المستجدة في شتى مناحي الحياة.