الديموقراطية.. ومتاعب انحسارها!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عبدالله بشارة
كتب الصديق د.عبدالحميد الأنصاري مقالاً في صحيفة الجريدة يوم الإثنين الماضي (18 يونيو 2018) ينعى فيه الوله العربي للديموقراطية، ويصف أغلب الأنظمة العربية بالتحايل على الدعوة العالمية للانفتاح بممارسة تجميلات مساحيقية لا تمس مرتكزات الحكم الدكتاتوري الشامل، وبذلك نجحت هذه الأنظمة بالمراوغة والادعاءات في الهرب من الضغوط العالمية، لا سيما الأميركية. وينسب الكاتب ذلك إلى الثقافة العربية المتوارثة التي تستأنس حكم الفرد مع تراث شعري وفلسفي في تمجيده وعدم الاعتراض على قراراته.
بودي أن أشير في هذا الصدد إلى تجربتين فيهما رعب عسكري من الحكم الديموقراطي ومن الانفتاح، وهما تجربة مصر وتجربة باكستان، وكل منهما عانى من هذا الرعب، الذي أطلق عليه العالم البرانويا Paranoia، فعندما قامت ثورة مصر في 1952 بضباط الطبقة الوسطى، كان الدافع تحقيق ما لم يقدر عليه النظام الليبرالي المصري الذي جاء مع ثورة 1919، فحقيقة أوهام التفوق تنطبق على جميع الثورات، لكن الحالتين المصرية والباكستانية تميزتا بالتعامل مع القوى العالمية – المطالبة بالانفتاح – بالمراوغة في باكستان، فالجيش الباكستاني نجح في خلق غطاء بحكم مدني صوري يتألف من باشوات وملاك الأراضي سمح لهم الجيش بالتحرك الشكلي في الميدان الدبلوماسي الخارجي.
اختار الحكم العسكري المصري الممارسة بالمواجهة المباشرة من دون تجميلات مدنية، الأمر الذي وضع القيادات العسكرية المصرية في صدام مع القوى الديموقراطية العالمية التي كانت لها شكوك في أهداف الثورة وفي آليات تحقيقها، وبدأت المواجهة بين الرئيس عبدالناصر والقوى الغربية، لا سيما بعد تبنيه الدبلوماسية العروبية كمسار للسياسة المصرية الخارجية، وما أفرزته من تجاذبات داخل الجامعة العربية مست بالمصالح الأوروبية والأميركية، مع تأميم القناة وحرب السويس والوحدة السورية وحرب اليمن، مع خوف دائم من تربص الخصوم بضرب الثورة.
في الفترة ما بين 1956 حتى مجيء السادات لم تنجُ مصر من التوتر الحاد في علاقاتها الدولية، وكانت القوى الحاكمة في حالة من التصور الدائم بأن مؤامرات تُحاك ضدها لتقويض الحكم.
أفرزت حالة البارانويا أجهزة للوقاية متنوعة الشكل ومختلفة الأهداف، فبرز محمد حسنين هيكل على رأس ماكينة اعلامية للتثقيف بسلامة الثورة ولطافة أهدافها، مع أجهزة مخابراتية توحشت في أساليبها الداخلية وتوسعت في مساراتها الخارجية، لكن ذلك لم يخفض حدة العصبية التي رافقت حكم عبدالناصر وانتقلت إلى السادات في ما بعد، لكنه أدرك عقم الأسلوب المتوارث، فتبدل وتآلف مع أنظمة الحكم في أميركا وأوروبا، لكن الخوف من الأصابع الخارجية لم يختفِ وظل حياً في مصر حتى في عهد مبارك مع انخفاض الزخم تدريجياً.
في العصر الحالي، عمل الرئيس عبدالفتاح السيسي على صياغة جديدة تختلف تماماً عن فصل الخوف من شباك التآمر بعد تثبيت شرعية الحكم بالانتخاب وتجديد الهياكل الحزبية المصرية للوصول إلى معارضة وطنية بناءة تساعده في أعباء الدولة.
ومع ذلك يظل التساؤل: هل ينجح الرئيس في الحد من تواجد الجيش في مقعد القيادة؟ وهل تستوحي مصر النموذج الباكستاني؟ تساؤلات فيها منطق.
في باكستان ما زال الجيش القوة المؤثرة البارزة وما زال مسكوناً بالخوف من تداخلات واشنطن، لا سيما مع مشكلة أفغانستان التي يدير شؤونها الجيش الباكستاني ولا يسمح للمدنيين بالتدخل، فما زالت العلاقات العسكرية مع «طالبان» مستمرة في حماية لكبارها المتحصنين بالجبال الباكستانية الوعرة.
لم تنجح أميركا في تحييد باكستان في دعمها للقوى الإسلامية المعارضة؛ لأن الجيش – صاحب الكلمة الأولى – ترك الساحة الدبلوماسية لصراع السياسيين العقيم، وأطبق على القضايا الاستراتيجية الجوهرية بصلابة، وأهم ما فيها السلاح النووي الباكستاني الذي يبقى في يد العسكريين وحدهم من دون دور لمحترفي السياسة.
كيف تبنى الديموقراطية في أجواء من الفزع؟
لا يمكن أن تتواجد ديموقراطية في مجتمع يعاني من الفزع، هناك دول أخرى مسكونة بالخوف الدائم، مثل إيران وسوريا، والجميع يراقب تجربة مصر في صيغتها الجديدة التي هندسها الرئيس السيسي، ففي نجاحها يكون الرئيس المصري قد وضع مصر على طريق السلامة والانفتاح والانطلاق بحيوية مصر المحبوسة في نظام مغفول منذ 1952.
قرأت خلال فترة العيد ما نشره الكاتب المصري مصطفى بكري في كتاب «ناصر 1967 هزيمة الهزيمة»، وهي محاضر اجتماعات الرئيس عبدالناصر مع اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي التي توالت بعد هزيمة 1967، وفيها صرخة الرئيس من النظام المغلق كما يصفه ويناشد الأعضاء بمساعدته بالرأي والاسهام بالمناقشة، وكان الرئيس يردد «نريد تحرير المواطن من الخوف طريقاً لتحرير الوطن»، ومع ذلك يردد الرئيس بأنه لا يريد انفتاحاً يعيد الباشا فؤاد سراج الدين، ولا الرجعيين، فيسعى لخلق ديموقراطية منحوتة وفق منظوره، مع معارضة أليفة من أهل الدار، مع التركيز على قضايا الوطن وليس المناكفات.
كما كان يتألم من اختفاء النقاوة الثورية التي حافظ عليها لكنها تلاشت من الآخرين المساعدين له، وكان الرئيس مسكوناً بالخوف من ضياع نظام الحكم عند غيابه، لا سيما الصيغة الاشتراكية.
كانت هذه المناقشة في اغسطس 1967، نحن الآن في يونيو 2018، تغيرت مصر كثيراً، راح الاتحاد الاشتراكي وراح الكثير من أجهزة ذلك الزمن، ومع ذلك بقيت بعض المظاهر من التركة تعيق مصر في انطلاقها، والسبب أسلوب التدرج الملتزم به الرئيس.
فالرئيس يراعي القدرة على الاستيعاب فلا يمطر المواطن بجرعات يصعب هضمها.
ومن التجربة المصرية يمكن أن يتوافر الرد على تساؤلات د.عبدالحميد الأنصاري بأن الثقافة العربية تغرد للدكتاتورية، خصوصاً بعد أن وقفت الشعوب العربية على مخلفاتها في مصر وتوحشها في سوريا والعراق وليبيا، ومواقع أخرى حطمت آدمية الانسان.
في باكستان تعبئة عسكرية دائمة، متيقظة وقابضة ولن تتبدل، وفي مصر البدء في تصويب مسار الثورة، وكل بلد له أولوياته.