واشنطن.. الخروج الكبير!؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
طلال صالح بنان
ما يحدث في الولايات المتحدة، هذه الأيام، يفوق ما اعتاد عليه العالم من مد وجزر في السياسة الخارجية لواشنطن. ما يحدث الآن من قبل إدارة الرئيس ترمب، يتجاوز موجات الجزر التقليدية التي كانت تعاود الولايات المتحدة، من فترة تاريخية، لأخرى... تبعاً لتغير توجهات إرادة الشعب الأمريكي، ولحركة الصراع الأزلية بين البيت الأبيض والكونغرس.
ما يجعل ما يحدث في السياسة الخارجية الآن، يختلف عن مظاهر العزلة التقليدية، بتأثيرها المباشر على استقرار العالم وتوازنه وتقدمه. في فترات العزلة التقليدية كانت الولايات المتحدة تنهج في سياستها الخارجية منهجاً سلبياً، لا يشعر العالم بفراغ وغياب المتغير الأمريكي، إلا في الأوقات الحرجة، التي تنذر بتغيرات جذرية في النظام الدولي، كما كان الحال في فترتي ما قبل الحربين الكونيتين الأولى والثانية.
في التجربة الأولى كانت القوى الدولية تتصارع في ما بينها في عالم غير مستقر، لفترة طويلة، حتى اندلعت الحرب الكونية الأولى، فتدخلت الولايات المتحدة لحسمها، إلا أنها عادت لعزلتها من جديد تاركة للعالم توصيات ويلسون الـ14، دون ضمانات عملية لنظام عصبة الأمم، أو الانخراط فيه. هذا الفراغ الأمريكي سرعان ما قاد العالم خلال عقدين إلى حرب كونية جديدة، حُسمت، مرة أخرى، بتدخل الولايات المتحدة.
من حينها والولايات المتحدة لم ترد ولم تقو على العودة لنهج العزلة التقليدي، لأن تجربة الحربين العالميتين، أثبتت أن الولايات المتحدة ليس من مصلحتها أن تكون بعيدة عن العالم، وتكتفي بحديقتها الخلفية في العالم الجديد. هذا ليس لأن النخبة في واشنطن، وجدت أن ذلك مكلف من الناحية السياسية والاقتصادية، فحسب... بل لأن لذلك محاذيره الإستراتيجية أيضاً. بعد الحرب الثانية رأت واشنطن: أنه أقل تكلفة بالنسبة لها، تفادي اندلاع النيران في العالم، على العودة لإطفائها من جديد. هذه المرة بسبب تطوير الأسلحة النووية، يمكن أن تندلع شرارة الحرب في أمريكا نفسها، وليس بالضرورة يبدأ اشتعالها في العالم القديم، كما كان الحال أيام سيادة الأسلحة التقليدية بإمكاناتها المحدودة و«تكتيكاتها» المتخلفة.
كان قرار واشنطن إعمار العالم القديم اقتصادياً.. وتنميته سياسياً، حتى لا تعود الأنظمة الفاشية للحكم في أقطابه الرئيسية، وأخيراً التكفل بحمايته إستراتيجياً، من بقايا النظم الشمولية في الاتحاد السوفيتي.. ووقف انتشار المد الشيوعي، ببناء جدار حديدي، حول المعسكر الاشتراكي، لكي لا تصل أيدلوجيته ولا نفوذ موسكو لما يسمى بالعالم الحر. لكن هذه التكلفة السياسية والاقتصادية والإستراتيجية، لم تكن بدون مقابل.. أو بلا عائد.
كانت جائزة واشنطن تكمن في فرض هيمنة سياسية واقتصادية وإستراتيجية على العالم. فأنشأت الأمم المتحدة.. واستبدلت نظام الذهب والإسترليني، بالدولار.. ونشرت قواعدها التقليدية والإستراتيجية، حول العالم متجاوزة حتى سيادة دول عظمى في أوروبا الغربية ودول إقليمية في الشرق الأوسط وشرق الباسفيك والبحر المتوسط وبحر الشمال، ضمن منظومة إستراتيجية، أطلق عليها معاهدة حلف شمال الأطلسي (الناتو )
إدارة الرئيس ترمب، جاءت لتهدم هذه المنظومة السياسية الاقتصادية الإستراتيجية، التي تشكل عماد استقرار العالم وتوازنه. فبدأت بـ«التحرش» بحلفائها الإستراتيجيين الغربيين، وتطالبهم بدفع فاتورة دفاعها عنهم.. والمساهمة في المستقبل بدفع تكلفة استمرار (الناتو)! خرق منظومة (الناتو) نفسها بفتح أبواب التعاون والتنسيق مع الروس! التحرش بأكبر اقتصاد نامٍ في العالم (الصين)، بحجة عجز الميزان التجاري، بين بكين وواشنطن، والعودة من جديد للسياسات الحمائية، التي ظن العالم أن منظمة التجارة العالمية قد قضت عليها، أو هي في طريقها للتخلص منها.
نفس السلوك الحمائي تتبعه الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي، حتى ضد شركائها في (النافتا) كندا والمكسيك، حيث الأخيرة تريد إدارة الرئيس ترمب، بناء جدار أسمنتي عازل بحجة منع الهجرة غير الشرعية من الجنوب. كانت أول ضربة لفكرة التكامل الإقليمي، الذي ساد نظام الأمم المتحدة، تمثلت في أول قرار وقعه الرئيس ترمب للخروج من منظمة الشراكة عبر المحيط الهادي... هذا بالإضافة إلى الخروج من اتفاقية باريس للمناخ.. ثم توالى نكوص الولايات المتحدة عن اتفاقاتها الثنائية والجماعية مع أطراف دولية وإقليمية عدة.
الولايات المتحدة بهذا السلوك الشرس تجاه مؤسسات النظام الدولي ودعائمه الاقتصادية والإستراتيجية، لم يتوقف عند هذا الحد، بل طال أيضاً (الخروج) قيم الولايات المتحدة الليبرالية والثقافية والديموقراطية. لقد أخرجت إدارة الرئيس ترمب الولايات المتحدة من اليونسكو.. وخفضت مساهماتها في منظمات دولية لها علاقة بحقوق الإنسان ومساهمات ملموسة في خفض التوتر في مناطق ساخنة، مثل ما لحق بـ(الأونروا). الأسبوع الماضي خرجت الولايات المتحدة من المجلس العالمي لحقوق الإنسان. خروجاً قد لا يكون بمستوى خطورة الخروج الإستراتيجي والسياسي والإستراتيجي الكبير، على استقرار النظام.... إلا أنه خروج يطال القيم الليبرالية والديموقراطية للشعب الأمريكي، التي بالتخلي عنها لم يبق شيئاً من مكانة وهيبة ونفوذ واشنطن في العالم.. ولا حتى ما يفتخر به الشعب الأمريكي، نفسه.
إنه خروج كبير للولايات المتحدة، يتجاوز كل تجارب العزلة السابقة.. وينذر، إن استمر طويلاً، بشر مستطيرٍ وخطرٍ ناجزٍ ومباشرٍ على سلام العالم وأمنه. إلا أن ما يبعث على الطمأنينة كون الولايات المتحدة دولة مؤسسات تحكمها قيم ليبرالية متسامحة وخيرة. هذا ما يكفل، قريباً، خروجها من ظلمة النفق، الذي يسير فيه قطارها، هذه الأيام.