الشعوان.. حفر اسمه على جبين الخُـبر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عبدالله المدني
في عام 1914 كانت مدينة الهفوف، حاضرة الأحساء، على موعد مع ميلاد من ستتذكره أجيال متعاقبة من أبناء مدينة الخبر نظير ما قدمه لمدينتهم من إنجازات ومشاريع بلدية غير مسبوقة معطوفة على العديد من الخدمات والأنشطة الحيوية في زمن مبكر لم تكن فيه مثل هذه الأمور محل اهتمام، أو لنقل أن المعنيين بها لم يكونوا من ذوي الهمة والإقدام والمبادرة. فكان عطاؤه جزيلا، وإنجازاته محفورة على جبين الخبر، وذكراه متجددة.
اسمه عبدالرحمن بن عبدالعزيز بن فهد الشعوان. ولد، كما قلنا، في الهفوف لأسرة نجدية، إذ إن والده عبدالعزيز هاجر من «المعيقلية» بالرياض إلى الأحساء طلبا للرزق والأمن والأمان قبل توحيد المملكة العربية السعودية على يد الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه. أما والدته فهي الجوهرة بنت عثمان بن علي الطويل من أهل «الحريق».
تقول سيرته الذاتية، التي حصلت عليها من ولده البكر محمد الشعوان، إن والد الشعوان، الذي كان يتاجر في العود والمسك والزعفران المستورد من الهند، توفي وهو صغير، فتولت والدته تربيته مع حرصها على تدريسه. وهكذا ختم الرجل القرآن الكريم في سن العاشرة على يد المطوع «ابن جلعود»، ثم تعلم الكتابة والحساب والإنشاء عند المعلمين الأحسائيين «عبدالله بن زيد بن حسين» و«طاهر أبوخمسين». ومن دلائل حرص أسرته على تعليمه، أن والده أرسله إلى البحرين للمزيد من التحصيل، فسكن هناك مع عم له يدعى فهد ويعمل في تجارة السكر والأرز والقهوة والشاي، والتحق بالمدرسة الخيرية التي أنهى فيها دراسته وحصل منها على الشهادة الابتدائية، قبل أن يعود إلى مسقط رأسه، متميزا عن بقية أقرانه بتلك الشهادة التي كانت آنذاك ذات قيمة كبيرة ومبعث افتخار لمن ينالها. ومن الذين زاملهم في المدرسة الخيرية بالبحرين خليفة بن عبدالرحمن القصيبي ومحمد بن عبدالعزيز القصيبي وعبدالرحمن المؤيد والد وزير الإعلام البحريني الأسبق طارق المؤيد.
بائع الأقمشة بالهفوف
الفترة التالية من حياة الشعوان تميزت بممارسته التجارة كغيره من رجالات ذلك الزمن، إذ افتتح محلا بالهفوف لبيع الأقمشة، وتزوج من فتاة من آل مرة بمهر 60 ريالا ومشلح لخالها، لكنها تميزت أيضا بحضوره مجالس الشعر والأدب ومجالس علماء الدين، وتنقله بين البدو والحضر، وبين المدينة والصحراء بدليل أنه عاش فترة من الزمن آنذاك وسط البدو من آل مرة وربطته علاقة وثيقة مع أحد رجالاتهم وهو مبارك بن غلفيص الثابت المري، فاكتسب تجارب ودروسا كثيرة في معرفة طباع الناس ومشاربهم وعاداتهم. لذا لم يكن غريبا أن يرشحه أهالي الأحساء لرئاسة بلديتهم الجديدة في العهد السعودي والتي ظهرت عام 1346 للهجرة. ذلك الترشيح الذي اعتذر عنه الشعوان بمبرر أنه يخشى عدم إرضاء الكل لأن «رضا الناس غاية لا تدرك».
رئاسة بلدية الخبر
في هذه الأثناء كانت مدينة الخبر تعيش بدايات توسعها وإزدهارها، من بعد اكتشاف النفط وإنتاجه وتصديره وما رافق ذلك من انتعاش في مستويات الدخل وهجرات من الداخل والخارج بحثا عن فرص العمل التي خلقتها شركة أرامكو التي وجدت في الخبر المدينة الأقرب والأنسب لتقديم الخدمات المتنوعة لها ولموظفيها بما فيها خدمات استيراد ما تحتاجه من معدات وسلع من البحرين عبر فرضة المدينة. ولكل هذه الأسباب أصدر المغفور له الملك عبدالعزيز في سنة 1361 للهجرة (1942 م) أمرا بإنشاء بلدية الخبر مع فرع لها بالدمام وآخر بالظهران (استقل الفرعان عن بلدية الخبر في عام 1947)، وأسندت رئاستها أولا إلى محمد القصيبي ثم إلى لطفي ناجي الحداد فإلى عبدالوهاب سلامة. وحينما شغر المنصب في عام 1951 قام أمير الأحساء آنذاك سعود بن عبدالله بن جلوي بتكليف الشعوان برئاسة بلدية الخبر، فوافق الأخير لمحبته وتقديره للأمير ابن جلوي، ولعلمه بأنه لن يقبل اعتذاره.
وهكذا جاء الشعوان إلى الخبر ليترأس بلديتها بدءا من عام 1952 وهو يحمل بداخله أحلاما كبيرة لا حدود لها وطموحات عصرية وآراء غير مسبوقة لجهة جعل الخبر مدينة متميزة عن شقيقاتها الأخريات في مختلف المجالات والأوجه. وعلى رغم أنه تحمل مسؤولياته في وقت كانت فيه الخبر مجرد بلدة صغيرة قليلة السكان ذات طرقات غير معبدة، وكان مبنى بلديتها مجرد بيت عربي تقليدي في وسط الحي التجاري القديم بشارع الملك سعود، بل لم تكن البلدية تملك وقتها سوى 138 ألف ريال في صندوقها وسيارة واحدة مع سائقها وستة عمال نظافة ومساح واحد، إلا أن ذلك لم يحبط عزائم الشعوان المؤمن بعدم وجود المستحيلات طالما وُجدت الإرادة والعزيمة والإخلاص والرؤى السديدة.
لم يجلس الشعوان في مكتبه كغيره من موظفي الحكومي البيروقراطيين، منتظرا الحلول أو الأوامر لتغيير الواقع إلى الأفضل، بل شمر عن سواعده منذ اللحظة الأولى لدخوله إلى مكتبه، وراح يبتكر الحلول والمبادرات القادرة على مواجهة النواقص وتحريك عجلة العمل. فلمواجهة الطلبات المتزايدة على الأراضي قام بتخطيط الأراضي الفضاء وبيعها للمواطنين بسعر 50 ريالا للقطعة، ولحل مشكلة عدم وجود مهندسين وخرائط في البلدية استعان بالقسم الهندسي التابع لشركة أرامكو والذي كان حينذاك برئاسة الأمريكي فرانك باترسون وتعاون معه وشرح له أفكاره ونظرته المستقبلية لما يجب أن تكون عليه الخبر لجهة تخطيط شوارعها طولا وعرضا وتخصيص مساحات للحدائق والمساجد والمدارس والمستوصفات والدوائر الحكومية المختلفة.
باترسون.. مساعدة واصطدام
الذين عاصروا تلك الحقبة يتذكرون أن الشعوان كثيرا ما اصطدم بالأمريكي باترسون، لأن الأول كان يسعى إلى توسعة الشوارع الرئيسية، فيما كان الثاني يعارض بحجة تخفيض النفقات وتكاليف السفلتة والإنارة والصيانة وجعلها في إطار ميزانية البلدية المحدودة. لكن الشعوان مضى يخطط وينفذ ليس للحاضر فقط وإنما للمستقبل أيضا وسط معارضة باترسون الذي أطلق على خططه (أحلام الشعوان)، وربما وسط معارضة آخرين ممن وجدوا في مشاريعه تبذيرا للمال العام. وقد أثبتت الأيام صواب رأي وأحلام الشعوان، وإلا لما ظهرت، في عهده أو عهود خلفائه، شوارع في الخبر تضاهي مثيلاتها في كبريات المدن العربية مثل شارع الملك عبدالله (شارع الظهران سابقا)، وشارع الملك عبدالعزيز، وشارع الأمير تركي (شارع الكورنيش) وشارع الأمير فيصل بن فهد (شارع البيبسي سابقا).
غير أن الشعوان نفسه تحول في فترة من فترات رئاسته لبلدية الخبر إلى معارض لمن كانوا يستعجلونه القيام بتوسعات ومشاريع جديدة في المدينة، قائلا لهم إن العمل الحكومي ليس كالعمل الخاص لأنه مرتبط بميزانيات مخصصة واعتمادات وتشريعات معينة وتواقيت مبرمجة لا يمكن تجاوزها. من هؤلاء الذين كانوا يستعجلون الشعوان وينتقدونه بلغة محترمة خالية من الإسفاف لما له من مكانة ودور، الكاتب عبدالله أحمد الشباط رئيس تحرير صحيفة الخليج العربي التي كانت تصدر من الخبر في الخمسينات. وقد اعترف الشباط لاحقا في مقال له بجريدة اليوم (11/6/1988) أنه كان يمثل وقتذاك «فورة الشباب وحماسه واندفاعه» فيما كان الشعوان يمثل حكمة الشيخ الموازن بين الماضي والمستقبل بميزان التجربة، مضيفا «كنت أظن أن رئيس البلدية يستطيع أن يطلب فيعطى ويأمر فيطاع، أما هو فكان يعلم تمام العلم أنه لا يستطيع أن يأتي بأي عمل إلا بموجب أنظمة وتشريعات وأوامر صرف وقبض في البلدية كما في أي مؤسسة حكومية».
إنجازات خلدت اسمه
لاشك أن إنجازاته البلدية لأهالي الخبر والمقيمين بها كثيرة، وإلا لما ظل اسمه خالدا يتردد إلى اليوم، رغم تقاعده عن عمله في الثاني من سبتمبر عام 1970 حينما كان راتبه قد وصل إلى 1857 ريالا فقط (علما بأنه ابتدأ من راتب شهري قدره 600 ريال)، ورغم انتقاله إلى جوار ربه في السابع من يوليو 1988 ودفنه في الأحساء بناء على وصيته رحمه الله. وقد ساعده على تلك الإنجازات قربه من ولاة الأمر وتواضعه مع الناس وتحليه بالصبر وقوة الشخصية، وقول الحق وعدم المجاملة في المصلحة العامة، والاستفادة من كل مقترح تطبيقا لشعاره الأثير «وفوق كل ذي علم عليم». ولولا كل هذه الحقائق عن الرجل، لما كلفته الدولة في عام 1965 بالقيام بجولة على مختلف بلديات المملكة لدراسة احتياجاتها وتقديم تقرير عن أوضاعها، بأمر من وزير الداخلية آنذاك الأمير/ الملك فهد بن عبدالعزيز يرحمه الله، ولما اختير من قبل وزارة الداخلية في العاشر من مايو 1970 (أي بعد تقاعده) ضمن أعضاء لجنة دراسة الثروة السمكية المكلفة بإعداد مسودة نظام لصيد الأسماك والمحار.
أكثر من رئيس بلدية.. شيّد المراكز ونظّم المياه
من مآثر وإنجازات عبدالرحمن الشعوان خلال السنوات التي قضاها رئيسا لبلدية مدينة الخبر: تخطيط المدينة تخطيطا عصريا بمساعدة مهندسي شركة أرامكو، بحيث تميزت شوارعها باستقامة واحدة تتقاطع معها طرق عرضية مستقيمة أيضا؛ رصف شوارع الخبر الرئيسية وتعبيدها وتخطيطها باللون الأبيض وتزويدها بالإنارة سنة 1956؛ بناء أسواق للحوم والأسمالك والخضار والفواكه في الخبر الشمالية والجنوبية سنة 1959؛ إنشاء مسلخ لذبح المواشي وتنظيفها خارج الخبر، على طريق العزيزية سنة 1959؛ إنشاء الحدائق والمتنزهات العامة، بدءا بالحديقة الواقعة بشارع الأمير طلال قبيل انتصاف الخمسينات؛ الانتهاء في عام 1959 من بناء مقر عصري من ثلاثة طوابق على شارع الظهران لبلدية الخبر وتوابعها؛ إكمال تعبيد طريق الخبر ــ الظهران، بعد انتهاء شركة أرامكو من تعبيد نصفه الغربي بمساراته الأربعة مع وضع جزيرة بين المسارين بعرض 40 مترا كي يتم مد خط حديدي عليها نحو فرضة الخبر إنْ فكرت أرامكو بذلك مستقبلا؛ تركيب الإشارات الضوئية في الشوارع والتقاطعات فكانت بلدية الخبر الأولى بين بلديات السعودية التي تقدم على ذلك؛ اعتماد تسميات منظمة للشوارع الطولية والعرضية باجتهاد شخصي منه رحمه الله؛ القيام بزراعة خط من أشجار الإثل في شمال الخبر ضمن مشروع لإيقاف زحف الرمال على المدينة.
إلى ما سبق اقترح الشعوان على وكالة وزارة الداخلية لشؤون البلديات أن تفصل المرافق العامة (مصلحة المياه والصرف الصحي حاليا) في المنطقة الشرقية عن البلديات لتصبح مستقلة بإدارتها وميزانيتها ومشاريعها. فتمت الاستجابة لمقترحه واختير كأول رئيس لها إلى جانب رئاسته لبلدية الخبر من 10 يونيو 1965 إلى 22 فبراير 1967. وفي عهده تم إنجاز شبكة المياه والصرف الصحي في الخبر بمبلغ 20 مليون ريال، فكانت الخبر هي أولى المدن السعودية لجهة وجود شبكة من هذا النوع فيها.
ومن أعمال الشعوان الأخرى: إنشاء ما عـُـرف بمشتل الخبر في الأجزاء الغربية الشمالية من المدينة مع قنوات ماء اصطناعية ليكون مكانا للتنزه والراحة في أيام الإجازات؛ القيام في عام 1958 بإطلاق فكرة «يوم الشجرة» لأول مرة في المملكة بجهوده الشخصية ومباركة ودعم وجهاء الخبر من أمثال محمد عبدالعزيز الخزيم وعلي عبدالله التميمي وأحمد بن حمد القصيبي وعبدالرزاق النصار وراشد بن محمد الدوسري ومحمد بن عبدالله المانع، وتوعية الناس بأهمية الفكرة لجهة تجميل المدينة وتحسين بيئتها؛ القيام في عام 1954 بإطلاق فكرة «يوم النظافة» من أجل خلق وعي بيئي وصحي لدى المواطنين، فنجحت الفكرة بعد أن شارك فيها طلاب المدارس والأهالي وأحرزت بلدية الخبر بذلك قصب السبق على مستوى السعودية؛ ردم ساحل الخبر وبناء الساند البحري لكورنيشها القديم؛ الموافقة في عام 1960 على طلب المواطن يعقوب الدوسري بتخصيص عدد من بلوكات الأراضي شمال غرب الخبر، كي يحولها إلى ستاد لكرة القدم، وهو الإستاد الذي صار لاحقا مقرا وملعبا لنادي القادسية الرياضي؛ القيام في عام 1954 بمطالبة الأمن العام بإرسال سرية من رجال الإطفاء للتمركز في الخبر لمواجهة أي حالات طارئة؛ إقامة برج خزان الماء في شارع الأمير مقرن قبل انتصاف الستينات.
زاد عرض الشوارع 40 متراً ولم يبال بالسخرية
في الثامن من فبراير 1984 كان الشعوان من بين المكرمين في حفلة افتتاح المؤتمر الأول لرؤساء البلديات والمجمعات القروية في المملكة العربية السعودية، بحضور أمير المنطقة الشرقية، ووزير الشؤون البلدية والقروية آنذاك الشيخ إبراهيم العنقري. غير أنه مذاك وإلى اليوم ترتفع أصوات من خلال الإعلام المكتوب تطالب بتكريم الرجل من خلال إطلاق اسمه على شارع من الشوارع التي خططها وعبدها وتولى رعايتها، خصوصا وأن الكثير من شوارع الخبر اليوم تحمل أسماء من بطون التاريخ القديم من تلك التي لم تعش في المدينة ولا صلة له بها في أي حقبة من حقب التاريخ. فعلى سبيل المثال كتب فالح الصغير في جريدة اليوم (27/11/1987) قائلا: «عبدالرحمن الشعوان.. هذا الذي خطط بيديه الشوارع الفسيحة، في وقت كان الناس يضحكون عليه حينما يضع عرض الشارع 40 مترا قبل 25 عاما.. الكثير كانوا يعتقدون أن ما يفعله الشعوان خارج عن نطاق العقل، لكن الزمن أثبت من هو العاقل.. ومن هو الذي يفكر بالمستقبل بتفكير عال (.....) أين الشعوان الآن؟ إنه يعيش الآن على شارع فرعي في الخبر ويدير عملا بسيطا مع أولاده ويتذكر تكريم وزارة الشؤون البلدية له (....)، ويكتمل التكريم لو سمي أحد شوارع الخبر باسمه تقديرا له ولجهوده».
وكتب زميله المهندس عبدالعزيز بن علي العبدالكريم رئيس بلدية الأحساء في جريدة اليوم (16 يوليو 1988) قائلا: «لم يكن عبدالرحمن الشعوان رئيسا لبلدية الخبر بحكم المنصب فقط، لقد كانت البلدية بخدماتها وواجباتها ودورها تجري في عروقه. كانت بينه وبين البلدية حالة من العشق النادر. كانت البلدية بكافة أنشطتها وطموحاتها لا تفارق ذهنه، فقد كان يعيش في جو بلدياتي (إذا صح التعبير) استهلك منه حياته».
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين