جريدة الجرائد

تركيا دخلت نفق الاستبداد القاتم

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

أليف شفق  

لا شك في أن المسار الذي سلكته تركيا أخيراً مولود من رحمها. ولكن أصداء قاتمة للحركات الشعبوية التي نبتت في الخارج تتردد فيه: انحسار طبقة النخب الجديرة بتبوأ المراكز- وهي كانت متواضعة-، ورجحان كفة «القوة على كفة الحق» في مقاربة السلطة مقاربة ذكورية عدائية؛ وتآكل الفصل بين السلطات؛ والهجمات اللاذعة على وسائل الاعلام؛ تقويض ثقافة التعايش؛ واستقطاب المجتمع- وهو استقطاب يصب في مصلحة الغوغاء الشعبويين.

وما حصل في تركيا قد يتكرر في أي بقعة من العالم. وحري بالأنظمة الديموقراطية الاعتبار بدروس ما حصل فيها. ولا يخفى أن تركيا، شأن روسيا، تتحدر من إرث «الدولة القوية». ويعود هذا الارث إلى السلطنة العثمانية. وفي مثل هذا البلد، الأولوية للدولة على حساب حريات الأفراد والمجتمع المدني، ومن اليسير على النخب السياسية الخلط بين «الديموقراطية» وحكم «الأكثرية» (الغلبة)، في وقت الفرق بينهما شاسع ولا تمت الأولى (الديموقراطية) إلى الثانية (غلبة «الأغلبية») بصلة. ولا تقتصر الديموقراطية على نتائج صناديق الاقتراع فحسب. فلا تقوم لها قائمة من دون حكم القانون، والفصل بين السلطات، والإعلام الحر والمتنوع، والاستقلال الأكاديمي، وحقوق النساء، وحرية التعبير. وفي تركيا، عناصر الديموقراطية أو مقوماتها كلها نزلت بها أضرار كبيرة وصارت مدمرة و»مكسورة» أو مقصومة الظهر، بعد 16 سنة من حكم حزب أردوغان، «العدالة والتنمية»، الاستبدادي أكثر فأكثر. ومن أين لنا في مثل هذه الحال وصف النظام التركي بالديموقراطي؟ فهو ليس على هذه الحال. ومنذ ترسيخ «حكم الأغلبية»، انزلقت تركيا إلى الاستبداد. والاستبداد ينفخ في جو الخوف، والتخويف والترهيب، والرقابة الذاتية. وحين تغلب «أكثرية» على بنى الحياة اليومية والمؤسسات كلها، وتهيمن عليها، لا تغير السياسة وجهاز الدولة السياسي فحسب، بل تطال نسيج المجتمع ذاته. واليوم، صار النظام التعليمي في تركيا أكثر قومية، وغلبت عليه ميول الحزب الحاكم الدينية. فمنذ عام 2000، ارتفع عدد خريجي المدارس الدينية من 60 ألف طالب إلى حوالى مليون ونصف طالب اليوم.

وبعد ما تقدم قوله، لا يجوز إغفال أن نصف المجتمع التركي، على أقل تقدير، يقاوم احتكار السلطة ويواصل السعي إلى الديموقراطية ويتمسك بها، على رغم صلاحيات أردوغان الكبيرة وصلاحيات المقربين منه. وفي هذا المنحى أو الجانب، تبين تركيا عن روسيا، وتبتعد من أوجه الشبه معها.

ووقعت محاولة الانقلاب وقع الكارثة والمفاجأة على ملايين الاتراك. ولم تكن في محلها، وليس ما يسوغها، ولا شك في أنها فاقمت تدهور الأمور. فعمليات تطهير تلتها. وفي هذه العمليات فُصل تعسفاً آلاف الاشخاص من أعمالهم، واعتقلوا وسجنوا أو اضطروا الى سلك طريق المنفى. ولا ريب في أن قصص الضيم والظلم في تركيا اليوم لم تُروَ بعد. فمواطنون عاديون اعتُقلوا أو لطخت سمعتهم. وخسر أكاديميون أعمالهم ووثائق سفرهم، وفي بعض الحالات، سجنوا لأنهم وقعوا عريضة فحسب. وتتبوأ تركيا اليوم في صدارة سجاني الصحافيين، وتقدمت على الصين في هذا المجال.

وهذا كله لا يطاق وليس قبوله ممكناً. وجلي أن الليبراليين الأتراك والديموقراطيين لا يريدون طغمة عسكرية ولا استبداداً مدنياً. وما تمس الحاجة إليه هو ديموقراطية متنوعة. والمؤسف في بلاد مثل تركيا أن المجتمع المدني- أو الشطر الاعظم منه- متقدم على حكومته ولكنه يفتقر الى سلطة تتحدى النخب السياسية. وبعد الانتخابات الاخيرة، صارت الامور أكثر عسراً. فتركيا دخلت مرحلة قاتمة جديدة. وهي تتجه بسرعة الى احتكار السلطة. وأعلن مراسلون بلا حدود أن 90 في المئة من التغطية الاعلامية في تركيا موالية للحكم. وكان المرشح محرم إنجه مصيباً حين حذر من انزلاق البلاد إلى حكم الرجل الواحد.

وفي دول تنحسر فيها حرية التعبير، لا شك في أن وسائل التواصل الاجتماعي هي منبر بارز في نقل المعلومات والجمع بين الناس وتحدي السردية الغالبة. وإلى وقت قريب، كانت وسائل الإعلام التركية مثل هذا المنبر، على رغم أنها لم تكن مستقلة تمام الاستقلال، ولكنها كانت على الأقل متنوعة وطوق الرقابة عليها غير محكم. ولكن القبضة أحكمت أكثر عليها. ويُلاحق ناس أكثر فأكثر بتهمة نشر تغريدة أو تعليق على فايسبوك. ولكنني أرى أن النساء في تركيا، على اختلاف منابتهن، هن تربة واعدة. وحين يسير بلد ما القهقرى ويقع في شراك الاستبداد، خسائر النساء تفوق خسائر الرجال. لذا، كانت التركيات في صدارة تجمعات المعارضة وحملاتها في بلد يغالي في الذكورية والتمييز الجنسي. وتتعاظم معدلات العنف ضد النساء في تركيا. والتضامن اليوم حيوي بينهن وبين شرائح المجتمع كله. والسؤال اليوم مداره على قدرة النساء على رص الصفوف ودعم قضايا مشتركة، على رغم الانتماءات الحزبية المختلفة؟ وهذا عسير.

والحق يقال لم تكن الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة انتخابات «عادية». فهي لم تلتزم معايير الشفافية ولا العدالة. وأبرز وجوه المعارضة، صلاح الدين دميرطاش، رئيس حزب الشعوب الديموقراطي، اضطر الى تنظيم حملته من زنزانته. واعتقلت شخصيات كثيرة من «الشعوب الديموقراطي»، وسجنت، وقيّدت حريتها بقيد الرقابة. وبرز محمرم إنجه، مرشح أبرز حزب معارض، «الحزب الجمهوري»، زعيماً سياسياً جذاباً. وللمرة الأولى منذ سنوات، رأى ملايين من العلمانيين والناشطين أن ثمة وجهاً معارضاً، واعداً، على رغم أنه حرم من حصة ظهور عادلة في وسائل الاعلام. ولكن إنجه وسعه الرد على اقصائه. ودخول حزب الشعوب الديموقراطي- والأكراد يغلبون عليه وعدد المرشحات فيه هو الأعلى قياساً على الاحزاب الاخرى- الى البرلمان هو انجاز لا يستخف به، فهو حاز أصوات مقترعين من غرب البلاد، وليس فحسب من شرقها (أكثرية كردية). ولكن هذه التطورات الايجابية لا تبدد القلق من إحكام أردوغان قبضته على السلطة وليس في الامكان غض النظر عن تحالفه مع القوميين المتطرفين. ومثل هذا التحالف لن يبادر إلى عملية سلام مع الأكراد. وما ينتظر تركيا هو سياسة ارتياب شعبوي وسياسة قبلية، والكلام سيدور لا محالة على «الماضي العثماني العظيم». فتركيا دخلت نفقاً مظلماً.

* روائية تركية، كاتبة، صاحبة «لقيط(ة) اسطنبول»، عن «واشنطن بوست» الاميركية بالتعاون مع معهد برغروين Berggruen ، 26/6/2018، إعداد منال نحاس

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف